"ذا نيويورك تايمز": تحولات صامتة في ملامح دمشق

قالت جريدة "ذا نيويورك تايمز" إن العاصمة السورية دمشق شهدت منذ ديسمبر الماضي تحولًا جذريًا في طبيعة حياتها الاجتماعية بعد سقوط نظام بشار الأسد على يد "قوى إسلامية قادمة من إدلب، بقيادة الرئيس الجديد أحمد الشرع".

وأضافت الجريدة الأميركية، في تقرير اليوم الإثنين، أن هذا التغيير أثار انقسامًا عميقًا بين مكوّنات المجتمع السوري، حيث رحب به البعض ورآه انتصارًا على الحقبة السابقة، بينما اعتبره آخرون تهديدًا للحريات الاجتماعية التي ميّزت العاصمة لسنوات طويلة.

دمشق القديمة: من السهرات الصاخبة إلى الصمت الحذر

قبل التغيير، كانت أزقة دمشق القديمة تعج بالحياة ليل الخميس، مع موسيقى حية وملابس عصرية وحفلات حتى الصباح، رغم القمع السياسي الذي كان يمارسه نظام الأسد. لكن اليوم، تغيّر المشهد جذريًا؛ البارات شبه فارغة، والموسيقى غائبة، وأصحاب الأماكن يتحدثون عن مضايقات متكررة من مسلحين حكوميين يطالبون بإنهاء الحفلات والامتناع عن تقديم الكحول.

نيفين توروسيان، مالكة "تيكي بار"، وصفت كيف اقتحم مسلحون المكان أثناء حفلة، وأمروا بإنهائها فورًا، مكررين زياراتهم للتحقيق حول نشاطات البار.

التحفظ الاجتماعي في مواجهة الليبرالية الدمشقية

القوى الجديدة القادمة من بيئة ريفية محافظة، خصوصًا من إدلب، جلبت معها قيمًا اجتماعية متشددة. ورغم عدم صدور قوانين رسمية تحظر الكحول أو الموسيقى أو الاختلاط بين الجنسين، فإن الجو العام أصبح أكثر تحفظًا، مما دفع الكثيرين من الليبراليين والمسيحيين والعلمانيين إلى تغيير سلوكهم خشية الصدام أو التعرض للمضايقات.

في الشوارع والأسواق، باتت رؤية النساء بالملابس القصيرة أو دون حجاب أمرًا نادرًا، وزاد ارتداء النقاب في العاصمة. حتى على الشواطئ السورية، انخفض ظهور البكيني وحل مكانه "البوركيني"، مع تراجع بيع الكحول في الأماكن العامة.

التوترات الطائفية والمخاوف من المستقبل

المشهد الجديد غذّى القلق بين الأقليات الدينية التي كانت تتمتع بمساحة أوسع من الحرية في ظل النظام السابق. الهجمات على دور العبادة المسيحية، ومنها تفجير انتحاري في كنيسة بدمشق في يونيو، عززت المخاوف من عودة سياسات الإقصاء الديني.

ماريا قدة، شابة دمشقية من عائلة مختلطة سنية-شيعية، عبّرت عن الصدمة من تصريحات بعض القادمين الجدد الذين يرفضون حتى "وجود" المختلفين عنهم.

محاولات ضبط المظهر العام

أصدرت الحكومة تعليمات توصي بارتداء ملابس محتشمة في الأماكن العامة، مثل تغطية الكتفين والركبتين، ومنع الملابس الضيقة أو الشفافة، إضافة لفرض "مايوهات" محتشمة على الشواطئ. ورغم تأكيد وزارة السياحة أن هذه "توجيهات" وليست قوانين ملزمة، إلا أن التغيير في المظهر العام كان واضحًا.

في جامع الأموي الكبير، فُرض فصل بين الرجال والنساء حتى في الساحة الخارجية، وهو ما رحب به البعض من منطلق ديني.

أحداث عنف هزت الحياة الليلية

التحول الاجتماعي ترافق مع حوادث عنف ضد أماكن الترفيه، أبرزها اقتحام مسلحين لمسرح "الكروان" وقتل امرأة وإصابة آخرين، وهجوم آخر على ملهى "ليالي الشرق". ورغم تأكيد الشرطة أن الهدف هو حماية رواد هذه الأماكن، فإن الخوف دفع العديد من المحلات للإغلاق أو الامتناع عن تقديم الكحول.

مديرة "بيانو بار" أوضحت أنها ترفض استقبال أشخاص بلحى كثيفة خوفًا من ردود أفعالهم تجاه مشاهد الرقص والشرب.

الأزمة الاقتصادية وتأثيرها على الحريات

حتى دون قرارات رسمية، بدأ تجار الكحول بالتوقف عن الاستيراد، ما أدى إلى ندرة المشروبات في الأسواق. بعض الشركات تحولت لاستيراد سلع أخرى مثل المياه المعبأة والشوكولاتة. هذه التطورات دفعت بعض الشباب إلى التفكير بالهجرة، مثل ماريا قدة التي قررت الانتقال إلى ألمانيا بحثًا عن بيئة أكثر حرية.

خاتمة

رغم أن جزءًا من السوريين يرى في سقوط الأسد نهايةً لحقبة دموية، فإن آخرين يعتبرون أن البلاد انتقلت من قمع سياسي إلى قمع اجتماعي محتمل، وأن ما يحدث في دمشق اليوم قد يكون بداية لتغيير جذري في هوية المجتمع السوري، بين ماضٍ علماني نسبيًا وحاضر تتصاعد فيه النزعات الدينية المحافظة.

Previous
Previous

بعد سنوات من الدمار حقول ريف درعا تزهر من جديد

Next
Next

صافيتا.. مدينة أسطورية في قلب جبال طرطوس