"فورين آفيرز": مجموعة "بريكس" نمر من ورق

قدّم تقرير حديث نشرته مجلة "فورين آفيرز" قراءة معمّقة في مستقبل مجموعة "بريكس" بعد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مسلطاً الضوء على المفارقة الأساسية التي تهيمن على هذا التكتل: "فهو يبدو أقوى من أي وقت مضى على الورق، لكنه يظلّ في الواقع هشّاً ومنقسماً وعاجزاً عن التحوّل إلى قوة جيوسياسية متماسكة".

وبحسب التقرير، اكتسبت "بريكس" هذا العام زخماً متجدداً بفعل عامل واحد محدّد: الولايات المتحدة. فسياسات ترامب، سواء تلك التي اتسمت بالعدائية أو الاندفاع أو الانسحاب من المؤسسات الدولية، أعادت التأكيد على المسوّغات التي تأسس التكتل من أجلها، والمتمثّلة في بناء عالم أقل خضوعاً للهيمنة الغربية، وتوفير بدائل لمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتعزيز استقلالية الاقتصادات الصاعدة في تعاملاتها مع واشنطن.

إلا أنّ هذا الدفع الإجباري نحو "تنويع التحالفات" لم يُترجم حتى الآن إلى بناء كتلة متماسكة قادرة على التحرك كقوة واحدة، رغم توسّع المجموعة من خمسة أعضاء أصليين إلى عشر دول تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات. فالتقرير يشدد على أنّ "بريكس" تعاني من تناقضات عميقة وتباينات حادة في المصالح، تجعل من الصعب عليها الارتقاء إلى مستوى التوقعات أو تشكيل بديل فعلي للمنظومة الغربية.

واشنطن… دافع غير مقصود لتقوية "بريكس"

وفق "فورين آفيرز"، تختلف سياسة ترامب تجاه "بريكس" جذرياً عن نهج أسلافه. فبدلاً من التجاهل التقليدي، اختار ترامب خطاباً تصادمياً، واصفاً المجموعة بأنها "تكتل مناهض لأميركا"، ومهدّداً بفرض رسوم بنسبة 100% على دولها في حال اتجهت فعلياً لاستبدال الدولار في المبادلات التجارية.

لكن المواجهة الأميركية لم تُدار عبر استهداف المجموعة ككل، بل عبر ضربات متفرقة لكل دولة على حدة. فالصين وروسيا تملكان قدرة أكبر على امتصاص الضغوط، بينما تعاني البرازيل والهند وجنوب أفريقيا من هشاشة اقتصادية تجعلها أكثر عرضة للعقوبات الأميركية.

غير أنّ القاسم المشترك بين الدول كافة كان شعورها المتزايد بأن "الاحتماء بجدار واحد" لم يعد خياراً. فاضطراب السياسات الأميركية، وهشاشة الالتزامات، وإجراءات ترامب التي اتخذت طابعاً متقلباً أو عقابياً، دفعت أعضاء "بريكس" إلى استخلاص درس واحد: "الكتلة أقوى معاً مما هي عليه منفردة".

الصين استثمرت في هذه اللحظة، إذ قدّمت عودة ترامب دليلاً على ما كانت تحذّر منه منذ سنوات: أن النظام العالمي الذي تقوده واشنطن غير مستقر وقابل للتقلب السياسي. وباتت مؤسسات مثل "بنك التنمية الجديد" تبدو اليوم، بحسب التقرير، أكثر "رؤية استباقية" مما كانت عليه عند تأسيسها.

أما روسيا، التي تواجه عقوبات غير مسبوقة منذ غزوها أوكرانيا، فوجدت في عودة ترامب فرصة لإعادة معايرة علاقتها مع واشنطن، وإن مع استمرار خطاب تهديدي متقطع. وهذا جعل موسكو أكثر تمسكاً بـ"بريكس" كحاضنة سياسية ومالية لتخفيف الضغوط الغربية.

وفي البرازيل، زادت العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، بدعوى أن ملاحقات سلف الرئيس لولا دا سيلفا ذات دوافع سياسية، من رغبة برازيليا في تعزيز تحالفاتها داخل التكتل. سانكشنات على قضاة ومسؤولين، وخطاب عدائي إضافي، دفعت الحكومة البرازيلية إلى ما وصفه أحد مستشاري لولا بأنه "تعميق للعلاقات بهدف تنويع الشراكات وعدم الاعتماد على بلد واحد".

الأمر ذاته تكرر في جنوب أفريقيا التي تعرّضت لحملة غير مسبوقة خلال لقاء بين ترامب والرئيس سيريل رامافوزا، حين أثار ترامب مزاعم حول "إبادة البيض"، وهو خطاب صدم الطبقة السياسية في بريتوريا ودفعها، وفق التقرير، إلى إعادة النظر في العلاقة مع واشنطن والبحث عن موازنات عبر "بريكس".

الهند بدورها، رغم سنوات من التقارب مع واشنطن، تلقت تحذيراً جديداً مع العودة القاسية لرسوم ترامب، وعمليات ترحيل واسعة لمواطنين هنود، وتعطيل اتفاقات تجارية. وهذا رسّخ استراتيجية "تعدد الاصطفافات" حيث تُستخدم "بريكس" كضمانة احتياطية.

توسّع بلا تماسك

ورغم اتساع دائرة الدول الراغبة في الانضمام إلى التكتل—من نيجيريا والسنغال إلى ماليزيا وكازاخستان وفنزويلا—يشدد تقرير "فورين آفيرز" على أنّ "بريكس" اليوم أكثر انقساماً من أي وقت مضى.

أبرز الأمثلة جاءت خلال اجتماع وزراء الخارجية في ريو دي جانيرو، حين فشل المجتمعون في إصدار بيان مشترك للمرة الأولى، بسبب خلافات حول وتيرة فك الارتباط بالدولار، وحدّة الموقف من الولايات المتحدة، ودور الصين القيادي في المجموعة.

وتجلّت التناقضات بشكل أوضح في مسألة إصلاح مجلس الأمن الدولي، حيث اعترضت مصر وإثيوبيا على صياغة تخصّ منح جنوب أفريقيا مقعداً دائماً، ما فجّر انقسامات داخلية كان التوسّع قد عمّقها بدلاً من احتوائها.

كما أظهر القصف الأميركي للمواقع النووية الإيرانية في يونيو نقطة اختبار إضافية. فالدول الأعضاء توافق جميعها على رفض الضربة ووصفها بأنها "أحادية وكانت تهديداً للنظام العالمي"، لكن البيان الصادر عن المجموعة كان "باهتاً وعمومياً" إلى حدّ لم يذكر فيه حتى الولايات المتحدة أو إسرائيل. بالنسبة لـ"فورين آفيرز"، يعكس هذا العجز "فقدان القدرة على التكلّم بصوت واحد" عند أي اختبار فعلي.

العقبة الأكبر: الصين… ومخاوف الشركاء

يُبرز التقرير قضية أخرى لا تقل حساسية: النفوذ الصيني داخل "بريكس". فالتوسع السريع للبضائع الصينية المدعومة—من الفولاذ إلى السيارات—يهدد الصناعات المحلية في البرازيل وجنوب أفريقيا، ويدفع إلى مطالبات داخلية بفرض إجراءات حمائية.

ووفق "فورين آفيرز"، تزداد خشية بعض الدول من أن تتحول "بريكس" إلى منصة لتعزيز "النموذج الصيني" أكثر من كونها شراكة متوازنة. فالاجتماع الافتراضي الأخير الذي استضافه لولا لصياغة استراتيجية مشتركة لمواجهة الرسوم الأميركية انتهى بلا نتائج ملموسة، وهو ما يعكس محدودية قابلية الدول للإصطفاف خلف رؤية واحدة.

بريكس… قوة مكبّلة بالتناقضات

تخلص مجلة "فورين آفيرز" إلى أن عودة ترامب أظهرت أهمية التكتل كما لم يحدث من قبل، لكنها كشفت في الوقت نفسه الأسباب العميقة التي تمنعه من التحوّل إلى لاعب عالمي مؤثر. فالفكرة الأساسية التي تجمع المجموعة—"رفض الهيمنة الأميركية"—لا تكفي لتوليد التماسك المطلوب لبناء تحالف حقيقي.

الاختلافات البنيوية بين الأعضاء، وتضارب المصالح الاقتصادية، والخشية من التفوق الصيني، والتباينات الجذرية في مستويات العداء تجاه واشنطن، كلها تجعل من "بريكس" قوة مبعثرة، قادرة على إصدار بيانات رنانة، وتوسيع عضويتها، لكنها عاجزة عن صياغة سياسة موحدة أو قيادة نظام عالمي جديد.

وبحسب التقرير، ستستمر المجموعة في "اجتذاب دول جديدة وإصدار إعلانات سياسية واسعة، لكنها ستظل بعيدة عن تشكيل نموذج بديل للحكم العالمي". أما ترامب، فسيظل—بمزيج من التصعيد والتقلب—الأكثر إسهاماً في إبراز أهمية "بريكس"، وفي الوقت ذاته الأكثر قدرة على كشف حدودها البنيوية.

Previous
Previous

من القطيعة إلى الشراكة.. عودة محمد بن سلمان إلى واشنطن

Next
Next

أسير فلسطيني من غزة: تمنيت أنني لم أخرج من السجن وأرى المسؤولين لم يوفروا خيمة لأهلي