"فورين بوليسي": الإفلات من العقاب يهدد بتجدد العنف الطائفي في سوريا

حذّرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية من أن سوريا مهددة بالانزلاق مجددًا إلى أتون العنف الطائفي، وذلك بسبب غياب المحاسبة عن الجرائم والانتهاكات التي شهدتها البلاد في الأشهر الماضية. وقالت المجلة إن الإفلات من العقاب يزرع الخوف بين المجتمعات المحلية ويقوّض أي محاولة لبناء استقرار طويل الأمد بعد سقوط نظام بشار الأسد.

وأوضح تقرير حديث للمجلة أن موجة من العنف اندلعت مطلع مارس في الساحل السوري، حيث شنّت ميليشيات مرتبطة بالنظام السابق هجمات منسقة على مدن وبلدات في محافظة طرطوس، ما أسفر عن مقتل نحو 1400 شخص، معظمهم من المدنيين، بحسب لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا. وأضاف التقرير أن ما جرى مثّل انتكاسة خطيرة للجهود الرامية إلى إعادة الأمن بعد أكثر من عقد من الحرب.

الساحل.. من مركز النفوذ إلى ساحة الدم

الساحل السوري، الذي يشكّل موطنًا رئيسيًا للطائفة العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد، وجد نفسه في قلب مواجهة دامية بين فلول النظام السابق وقوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة في دمشق. فمنذ انهيار سلطة الأسد، ارتفعت مخاوف العلويين من الانتقام والتمييز، وهو ما استغلته مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق لإشعال فتيل العنف. وبحسب شهادات الناجين، فقد استُهدفت العائلات العلوية بعمليات قتل جماعي ونهب منظم، ما دفع عشرات الآلاف إلى الفرار نحو لبنان المجاور.

روايات من قلب المأساة

من بين الشهادات المؤلمة، تبرز قصة "أمينة"، مدرسة فقدت زوجها منير ووالده مع ثلاثة رجال آخرين من جيرانهم عندما اقتادتهم مجموعات مسلحة إلى سطح المبنى وأعدمتهم أمام أنظار الأهالي. تقول أمينة: "ذهبت أفتش في هاتفي لأتصل بمن أبكي معه، فلم أجد أحدًا.. زوجي، أصدقائي، زملائي، وحتى جيراني جميعهم ماتوا". مثل هذه القصص المتكررة عمّقت الشعور بالعزلة والخوف داخل المجتمع العلوي الذي كان حتى وقت قريب يُنظر إليه كحاضنة للنظام السابق.

قصة أخرى ترويها "سمر"، والدة المحامي حمزة الذي قُتل مع والده المريض بالسرطان على أيدي المهاجمين. سمر، التي جلست بين صور عائلتها وملابس الحداد السوداء، عبّرت عن مرارة فقدانها وثقتها المهدورة بجيرانها السنة الذين لم تشعر تجاههم سابقًا بعداء. "اليوم لا ننام. نخاف كل ليلة أن يهاجمونا مجددًا. كأن الموت على الأبواب"، تقول سمر.

الحكومة الجديدة بين النفي والاتهام

في مواجهة هذه الأحداث، سعت الحكومة السورية برئاسة أحمد الشرع إلى إظهار التزامها بالمحاسبة. ففي 9 مارس، أعلن الشرع عن تشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق. اللجنة قدمت نتائجها في يوليو، غير أن التقرير الكامل لم يُنشر، مما أثار شكوكًا واسعة حول جدية التحقيقات. الناطق باسم اللجنة، ياسر الفرحان، قال إن التحقيق خلص إلى أن الانتهاكات لم تكن نتيجة "سياسة أو خطة حكومية" بل تصرفات فردية مدفوعة بدوافع مختلفة.

لكن منظمات حقوقية سورية ودولية، مثل "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، شككت في هذه الخلاصات. مديرها التنفيذي، بسام الأحمد، اعتبر أن الحكومة مسؤولة بموجب القانون الدولي عن تصرفات القوات التي نشرتها، حتى وإن لم تعط أوامر مباشرة بارتكاب الجرائم. وأضاف: "الفشل في منع جرائم الحرب يُعد كافيًا لتحميل الدولة المسؤولية الجنائية".

موقف دولي متشدد

ردود الفعل الدولية لم تتأخر. ففي مارس، دان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو المجازر، بينما دفع عضو الكونغرس مايك لولر في يوليو نحو تحديث شروط رفع العقوبات عن سوريا لتشمل التحقق من أن الحكومة "لا تستهدف الأقليات الدينية أو تحتجزها تعسفيًا". هذه المواقف تعكس قلقًا أميركيًا وأوروبيًا من أن غياب المحاسبة سيُبقي سوريا عرضة للانفجار الطائفي المتجدد.

الأمن العام في قفص الاتهام

قوات جهاز الأمن العام السوري التي وسعت انتشارها في الساحل بعد سقوط الأسد، وجدت نفسها متهمة بالتورط في بعض المجازر. تقرير لوكالة "فرانس برس" أشار إلى أن وحدات من الجهاز ربما شاركت في قتل مدنيين علويين، بينما أكد قائد الجهاز في الساحل، أبو البحر، أن قواته حاولت حماية المدنيين ونقلتهم إلى مدارس آمنة قبل أن تتعرض بدورها لهجوم. غير أن تضارب الروايات وعدم وجود شفافية رسمية أبقيا الشكوك قائمة.

الإفلات من العقاب.. وصفة للفوضى

يرى خبراء أن أكبر تهديد يواجه سوريا اليوم ليس فقط في استمرار التوترات الطائفية، بل في شعور الضحايا بأن العدالة غائبة. نانار هواش، المحللة في "مجموعة الأزمات الدولية"، حذرت من أن غياب المحاسبة "يزيد خطر تكرار العنف على المدى الطويل"، مشيرة إلى أن من ارتكبوا الانتهاكات يمكن أن يعودوا لممارستها، وأن المجتمعات المستهدفة قد تلجأ إلى المقاومة المسلحة للدفاع عن نفسها.

بين الماضي والمستقبل

بالنسبة لعائلات مثل عائلة سمر وأمينة، فإن الوعود الحكومية لا تعني الكثير. على أطراف مدينة بانياس، حيث شُيّد مقبرة جديدة لضحايا المجازر، تجلس "نور"، ابنة سمر، باكية على قبر شقيقها ووالدها. تقول نور بمرارة: "لا أثق بأحد. لا بلجنة تحقيق ولا بحكومة. لم يعد هناك من يحمي أحدًا".

هذه الكلمات تلخص مأزق سوريا الجديد: بلد يحاول أن ينهض من ركام حرب أهلية طويلة، لكنه يجد نفسه مرة أخرى أمام خطر الانزلاق إلى هاوية العنف الطائفي. فبدون عدالة ومحاسبة، يظل شبح الحرب حاضرًا، ومعه احتمالات انهيار أي استقرار هش تم تحقيقه منذ سقوط الأسد.

وبحسب "فورين بوليسي"، فإن مستقبل سوريا لن يُبنى فقط بالوعود والخطابات، بل بالعدالة الحقيقية التي تُعيد الثقة بين المكونات المتصارعة، وتضمن ألا يتكرر ما حدث في مارس. وحتى يحدث ذلك، سيظل الإفلات من العقاب أكبر تهديد لاستقرار سوريا ووحدتها الوطنية.

Next
Next

دينا: تأسيس أكاديمية الرقص الشرقي كان حلم عمري