"واشنطن بوست": من صيدنايا إلى السويداء.. الاختفاء القسري يطارد السوريين رغم تغير السلطة
رغم سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، ما زالت سوريا تعيش في ظلال الاختفاء القسري، الظاهرة التي أصبحت مرادفًا لعذابات شعبها على مدار أكثر من عقد.
تقرير موسع نشرته صحيفة واشنطن بوست بعنوان "في سوريا الجديدة، كما في القديمة، عائلة تراقب ابنًا آخر يختفي"، ألقى الضوء على مأساة عائلة العمارين من مدينة نوى بدرعا، ليكشف أن استبدال السلطة لم يوقف نزيف الخطف والاعتقال، بل أعاد إنتاجه في قوالب جديدة.
مأساة عائلة العمارين: عقد من الفقدان المستمر
العمارين ليست عائلة عادية؛ قصتها تلخّص مسار الحرب السورية بكاملها. البداية عام 2012 حين قُتل معمّر، المهندس الأربعيني الذي قضى برصاص الحرب. بعد أشهر قليلة، اختفى ابنه عدي، ولم يظهر له أثر حتى الآن.
وفي 2013، جاء الدور على عمار، شقيق معمّر وأستاذ الجيولوجيا في جامعة دمشق، الذي أوقف على حاجز أمني. منذ ذلك التاريخ، تشير الشهادات إلى أنه أُدخل سجن صيدنايا سيّئ السمعة، المعروف بأنه "غرف موت بطيء"، حيث يُعتقد أن آلاف المعتقلين تمت تصفيتهم أو ماتوا تحت التعذيب.
الجريدة الأميركية تؤكد أن هذه القصة تعكس مصير آلاف العائلات السورية، التي لم تتلقَّ أي تفسير رسمي أو اعتراف بمصير أبنائها رغم الوعود المتكررة من السلطات الجديدة.
حمزة: الضحية الرابعة بعد سقوط الأسد
آخر فصول المأساة كان في صيف 2025. عاد حمزة العمارين من منفاه الطويل، حيث عمل مع منظمة الخوذ البيضاء في الخارج، ليشارك في عمليات إنقاذ داخل محافظة السويداء. في يوليو، وبينما كان يساعد مدنيين عالقين في اشتباكات ذات طابع طائفي، اختفى هو الآخر.
وفي النهاية وصل لعائلته مكالمة قصيرة طمأنهم خلالها: "أنا بخير، سأخرج بعد أيام". لكن الأيام تحولت إلى أسابيع وأشهر، ولم يظهر أي أثر له.
تقديرات ناشطين حقوقيين – نقلتها الصحيفة – تشير إلى أن حمزة ربما محتجز لدى ميليشيات محلية في السويداء، في تكرار لمشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات الأجهزة الأمنية في عهد الأسد.
استمرار المأساة رغم التغيير السياسي
سقوط الأسد فتح الباب أمام إنشاء لجنة وطنية للمفقودين في مايو 2025، برعاية المجلس الانتقالي. اللجنة تعهدت بكشف مصير أكثر من 100 ألف شخص اختفوا منذ اندلاع النزاع، والعمل مع منظمات دولية لتأمين العدالة.
لكن "واشنطن بوست" تؤكد أن النتائج حتى الآن "خجولة". آلاف العائلات زارت السجون واطلعت على مقابر جماعية، دون أن تجد إجابات واضحة. عائلة العمارين مثلًا لم تعثر على أي دليل عن عمار أو عدي رغم بحثها المستمر.
منظمات حقوق الإنسان ترى أن ضعف الإمكانات، وانقسام القوى المحلية، وغياب الإرادة السياسية تجعل عمل اللجنة بطيئًا، فيما يظل الملف رهينة المساومات بين القوى الانتقالية والفصائل المسلحة.
البعد الإنساني: عائلات معلّقة بين الأمل واليأس
التقرير يسلط الضوء على الجانب الإنساني الكارثي. عائلات مثل العمارين تعيش سنوات طويلة من الانتظار، بين أمل العثور على الأحبة وخوف مواجهة الحقيقة. "نعيش بين الموت والحياة"، تقول والدة أحد المختفين للصحيفة.
هذا الوضع يُنتج ما يسميه علماء الاجتماع بـ"الحياة المعلّقة"، حيث تتوقف قدرة الأسر على الحداد أو إعادة بناء حياتها، لأن الغياب غير مؤكد، ولا توجد جثث أو قبور تُزار.
مقارنات مع تجارب عالمية
لإبراز خطورة الظاهرة، عقدت واشنطن بوست مقارنة بين سوريا وتجارب أخرى: في الأرجنتين خلال السبعينيات والثمانينيات، اختفى نحو 30 ألف شخص على يد "الديكتاتورية العسكرية". بعد عقود، تشكّلت "جمعية أمهات ساحة مايو" لتوثيق الحالات، ونجحت في دفع الدولة لاحقًا للاعتراف الرسمي وإطلاق مسار عدالة انتقالية.
في البوسنة، بعد حرب التسعينيات، بقي أكثر من 8 آلاف شخص في عداد المفقودين. تأسست لجان دولية ساهمت في تحديد هوية الجثث عبر تحليل الحمض النووي، في خطوة كانت حاسمة لشفاء الجراح الجماعية.
هذه التجارب تُظهر أن حل قضية المفقودين ليس مجرد "عمل إداري"، بل شرط أساسي لتحقيق المصالحة الوطنية. وفي سوريا، يبقى هذا المسار في بدايته، وسط شكوك حول قدرته على تجاوز الانقسامات الراهنة.
البعد السياسي: عدالة مؤجلة وأطراف متورطة
إحدى النقاط المحورية في تقرير واشنطن بوست هي أن الاختفاء القسري لم يعد مرتبطًا فقط بالنظام السابق. فالميليشيات المحلية والفصائل المسلحة أصبحت لاعبين رئيسيين في إنتاج الظاهرة، كما في حالة حمزة في السويداء.
هذا يطرح تحديًا مضاعفًا: "كشف مصير المختفين في سجون الأسد، ومنع تكرار الظاهرة على أيدي القوى الجديدة، ومن دون ذلك، ستبقى العدالة مؤجلة، وسيظل "المفقودون" عنوانًا دائمًا في سوريا ما بعد الأسد".
المستقبل بين الأمل والخيبة
بين وعود اللجنة الوطنية للمفقودين، وضغوط منظمات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة العفو، وبين واقع الفصائل المسلحة وتعدد سلطات الأمر الواقع، يظل مستقبل العدالة في سوريا ضبابيًا.
"واشنطن بوست" خلصت إلى أن من صيدنايا، رمز القمع الأسدي، إلى السويداء، رمز الفوضى الراهنة، يظهر أن المشكلة أعمق من مجرد تغيير سياسي. هي قضية مجتمع يبحث عن ذاته وعن ذاكرته، وسط غياب يقين يطارد الأجيال.
خاتمة
قصة العمارين تكشف أن الحرب لم تنتهِ فعليًا بسقوط الأسد، بل انتقلت إلى مرحلة جديدة حيث تتقاطع جراح الماضي مع أزمات الحاضر. ومع استمرار الاختفاء القسري، يظل الشعب السوري رهينة السؤال نفسه منذ 2011: أين أبناؤنا؟ وربما لن تبدأ سوريا مسيرتها نحو التعافي إلا حين تجد لهذا السؤال إجابة.