روسيا تبحث عن دور جديد في سوريا ما بعد الأسد
في خطوة فُسرت على أنها بداية لإعادة صياغة العلاقة مع دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، أرسل الكرملين في التاسع من سبتمبر وفدًا رفيع المستوى إلى سوريا، في زيارة غير معلنة مسبقًا، يقوده نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، أبرز مستشاري الرئيس فلاديمير بوتين في ملف الطاقة.
التقرير الصادر عن "معهد جيمس تاون" الأميركي يشير إلى أن هذه الزيارة كانت "الأكثر وضوحًا" في سعي موسكو لإعادة ضبط علاقاتها مع القيادة السورية الجديدة، بعد سنوات من الاعتماد الكامل للنظام السابق على الدعم الروسي.
"فتح صفحة جديدة"
ضم الوفد الروسي مسؤولين كبارًا بينهم المبعوث الخاص ألكسندر لافرنتييف، ونائب وزير الدفاع يونس بيك يفكوروف، ونائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين، وقد استقبلهم أمين عام الرئاسة السورية ماهر الشرع، الذي شدد على أن العلاقات مع موسكو يجب أن تكون "مبنية على الاحترام المتبادل" وتمكّن السوريين من "بناء مستقبلهم بأيديهم".
أما نوفاك، فقد قدّم الزيارة بوصفها محاولة "لفتح صفحة جديدة" في مجالات الطاقة والدفاع والسياسة وإعادة الإعمار، مؤكدًا على تطلع بلاده لتوسيع التعاون مع دمشق في ظل المتغيرات السياسية التي أعقبت إزاحة الأسد عن الحكم في ديسمبر الماضي.
ويبرز التقرير أن القيادة السورية الجديدة، ممثلة في الرئيس أحمد الشرع، تراهن على القمة الروسية-العربية المقررة في موسكو منتصف أكتوبر الجاري كمنصة لتثبيت هذا التحول، إذ يُنتظر أن تكون مشاركته "رمزًا لإعادة ضبط العلاقات" بين الطرفين على أسس أكثر توازنًا واستقلالية.
توازن المصالح بدل التبعية
ورغم اعتراف المسؤولين السوريين بـ"عمق العلاقات التاريخية" مع موسكو، فإنهم شددوا على ضرورة إعادة تعريفها بما يحقق مصالح سوريا الوطنية.
الشرع حذر من أن أي وجود أجنبي "يجب أن يخدم إعادة إعمار البلاد، لا أن يعيد إنتاج السيطرة الخارجية"، مؤكدًا أن دمشق وموسكو قادرتان على بناء علاقة قائمة على "السيادة والعدالة والمصالح المشتركة".
ويرى تقرير "معهد جيمس تاون" أن تصريحات الشرع تحمل رسالة واضحة: سوريا ما بعد الأسد تسعى لتقليص مظاهر التبعية القديمة، وإعادة رسم ملامح العلاقة مع روسيا على أسس تعاقدية متوازنة.
الطاقة... حجر الأساس المتنازع عليه
لا تزال الطاقة تشكل الركيزة المركزية في العلاقة الروسية-السورية، لكن معادلاتها تغيرت جذريًا، فقطاع الطاقة السوري، الذي دمرته 13 سنة من الحرب، يعتمد بالكامل تقريبًا على الاستيراد، ويحتاج إلى وقود ومعدات لإحياء الإنتاج المحلي من النفط والغاز.
وخلال الزيارة، أكد نوفاك أن موسكو، إلى جانب قطر، تدرس "خيارات دعم سوريا في مجالي الطاقة والاحتياجات الإنسانية"، لكن دمشق – وفق التقرير – تطالب بتنازلات ملموسة: وقود مدعوم، وعودة الفنيين الروس، ومساعدات إعادة إعمار، مقابل ضمان استمرار وصول روسيا إلى قواعدها في طرطوس وحميميم.
ويشير التقرير إلى أن المفاوضات بين الجانبين اتخذت طابعًا "تبادليًا أكثر من أي وقت مضى"، حيث ضغطت دمشق للحصول على إمدادات وقود شبه مجانية، وهو ما يعكس تحولًا في ميزان النفوذ، وتنامي رغبة سوريا في فرض شروطها ضمن علاقة لم تعد أحادية الاتجاه كما كانت في عهد الأسد.
الملفات العسكرية والحساسية الإسرائيلية
الجانب العسكري لا يزال حاسمًا لكنه محفوف بالتعقيد، فبينما تجنّب نوفاك الحديث العلني عن مستقبل القواعد الروسية، إلا أن مناقشات الكواليس تناولت قضايا الدفاع، وإعادة تأهيل القوات السورية، وتوريد الأسلحة وفق حسابات دقيقة لتجنّب التصادم مع إسرائيل.
وتدرس دمشق استئناف الدوريات الروسية في الجنوب السوري، في حين تراجع اتفاقات قديمة تراها "مجحفة"، وبحسب التقرير، فقد أكد الشرع أن سوريا "تغلق صفحة السلاح الكيميائي" من خلال التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، في إشارة إلى رغبة القيادة الجديدة في النأي بنفسها عن إرث الأسد وفتح الباب أمام انخراط دولي مشروط.
وساطة روسية بين سوريا وإسرائيل
وخلال الزيارة عرض نوفاك ن تلعب موسكو دور "الوسيط المهدئ"، مستفيدة من علاقاتها مع إسرائيل ومختلف الأطراف السورية.
لكن، كما يشير تقرير "معهد جيمس تاون"، تبقى التساؤلات قائمة حول مدى قدرة موسكو فعليًا على التأثير على إسرائيل، أم أن الأمر لا يتجاوز التصريحات الرمزية لإبقاء روسيا في موقع اللاعب الإقليمي المؤثر.
"شراكة جديدة لا تبعية قديمة"
يخلص التقرير إلى أن زيارة الوفد الروسي إلى دمشق عكست مزيجًا من الاستمرارية والتغيير في نهج موسكو تجاه سوريا، فرغم تمسك روسيا بحماية وجودها العسكري وضمان عقودها الاقتصادية، فإنها تواجه الآن قيادة سورية جديدة لا تقبل التبعية الكاملة.
الشرع، بحسب التقرير، يسعى إلى تحويل العلاقة إلى "شراكة ندّية"، مستفيدًا من حاجة روسيا إلى الحفاظ على موطئ قدمها في شرق المتوسط، بينما تحاول دمشق انتزاع مزيد من الدعم المالي والفني دون العودة إلى "الارتهان السياسي" الذي طبع مرحلة الأسد.
ويختتم "معهد جيمس تاون" تحليله بالقول إن الزيارة لم تكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل اختبارًا حقيقيًا لقدرة موسكو ودمشق على بناء علاقة جديدة قائمة على المصالح المتبادلة لا على الولاء المطلق، فروسيا تريد البقاء لاعبًا رئيسيًا في سوريا ما بعد الأسد، لكن عليها أن تتكيف مع واقع سياسي جديد، تُرسم فيه الخطوط العريضة للعلاقة وفق شروط دمشق لا أوامر الكرملين.