بسياسة الطفل الواحد.. هل أطلقت الصين النار على قدميها؟
"أرجوكم أنجبوا أطفالا أكثر".. هكذا صارت رسالة الصين إلى الأزواج الجدد، بعد عقود قيدت فيها الدولة الآسيوية الأسر بسياسة "الطفل الواحد".. هذه الرسالة كشفت تداعيات تلك السياسة على البلاد، ليس فقط على المستوى الديُمغرافي بل أيضا السياسي والاقتصادي.
وبالفعل فقدت الصين مكانتها كأكبر دولة من حيث السكان في العالم لصالح الهند، وذلك وفق تقديرات لمنظمات أممية وأخرى مستقلة، حيث بلغ تعداد الهند بنهاية العام الماضي 1.417 مليار نسمة مقابل 1.409 للصين.
وأشار مركز "بيو للأبحاث" الأميركي، إلى توقعات الأمم المتحدة بتراجع عدد سكان الصين إلى 1.313 مليار نسمة بحلول عام 2050، وإلى أقل من 800 مليون نسمة بحلول عام 2100، وهذا على الرغم من افتراض أن معدل الخصوبة الإجمالي في الصين سيرتفع من 1.18 طفل لكل امرأة إلى 1.48 في عام 2100.
انخفاض تاريخي
وفي العام 2023، انخفض التعداد بشكل تاريخي مع تراجع معدل المواليد وارتفاع الوفيات الناجة عن فيروس "كوفيد 19"، بعدما أنهت بكين سياسات صارمة لمواجهة الفيروس المميت، حسب وكالة "بلومبرغ".
وقال "المكتب الوطني للإحصاء" في الصين، إن إجمالي عدد السكان هبط بمقدار 2.08 مليون شخص أو 0.15%، وهو انخفاض أكبر من تراجع عدد السكان البالغ 850 ألف نسمة في العام 2022، الذي كان أول انخفاض يجري تسجيله منذ العام 1961 خلال المجاعة الكبرى في عهد الزعيم الصيني السابق ماو تسي تونغ وفق وكالة "رويترز".
وسجلت الصين 11.1 مليون حالة وفاة، أي أعلى بنحو 690 ألف حالة من 10.41 مليون في العام السابق، وفقا للبيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني الصيني، كما ارتفع إجمالي الوفيات العام الماضي بمقدار 6.6 % إلى 11.1 مليون، مع وصول معدل الوفيات إلى أعلى مستوى منذ عام 1974 خلال الثورة الثقافية.
ومن المحتمل أن تكون هذه الزيادة بسبب تضخم الوفيات المرتبطة بكوفيد في الأشهر التي أعقبت تخلي السلطات عن استراتيجيتها الخاصة بإنهاء قيود الإغلاق الصارمة للحد من تفشي فيروس كورونا، والمعروفة باسم "صفر كوفيد" في ديسمبر 2022
تراجع المواليد
كما انخفض عدد المواليد الجدد 5.7% إلى 9.02 مليون، وسجل معدل المواليد مستوى قياسيا منخفضا بلغ 6.39 ولادة لكل 1000 شخص، بانخفاض عن معدل 6.77 ولادة في العام 2022.
وهبط معدل المواليد في البلاد لعقود من الزمن، نتيجة لسياسة الطفل الواحد التي تم تنفيذها من عام 1980 إلى عام 2015 والتوسع الحضري السريع خلال تلك الفترة.
وقد تراجع عدد الأطفال حديثي الولادة بشكل مطرد منذ الستينيات، باستثناء ارتفاع طفيف في عام 2016، عندما خففت الحكومة سياسة الطفل الواحد للسماح للعائلات في جميع أنحاء البلاد بإنجاب طفلين، بحسب "بلومبرغ".
وكما كان الحال مع فترات الازدهار الاقتصادي السابقة في اليابان وكوريا الجنوبية، انتقلت أعداد كبيرة من السكان من المزارع الريفية في الصين إلى المدن حيث يكون إنجاب الأطفال أكثر تكلفة.
ومما ساهم في تراجع الرغبة في إنجاب الأطفال في عام 2023، ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات قياسية، وانخفاض أجور العديد من الموظفين الإداريين وتفاقم الأزمة في قطاع العقارات، حيث يتم ادخار أكثر من ثلثي ثروات الأسر.
آثار اقتصادية مدمرة

وتزيد البيانات الجديدة من المخاوف بتضاؤل نمو ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بسبب انخفاض عدد العمال والمستهلكين، في حين يضع ارتفاع تكاليف رعاية المسنين واستحقاقات التقاعد المزيد من الضغط على الحكومات المحلية المثقلة بالديون، حسبما تشير "رويترز".
وفي وقت سابق، قالت "لجنة الصحة الوطنية الصينية"، إن واحدا من كل خمسة من سكان البر الرئيسي البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة كان يبلغ من العمر 60 عاما أو أكثر في نهاية عام 2022، ومن المتوقع أن تتجاوز النسبة 30 بالمئة خلال عقد من الزمن.
وتجاوزت الهند الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان العام الماضي، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة، مما أثار المزيد من الجدل حول مزايا نقل بعض سلاسل التوريد التي يوجد مقرها في الصين إلى أسواق أخرى، خاصة مع تصاعد التوترات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة.
وعلى المدى الطويل، يتوقع خبراء الأمم المتحدة أن يتقلص عدد سكان الصين بمقدار 109 ملايين نسمة بحلول عام 2050، أي أكثر من ثلاثة أمثال الانخفاض المذكور في توقعاتهم السابقة الصادرة عام 2019.
أزمة "خصوبة"
إلا أن مركز "بيو" يشير إلى ملحوظة مهمة بشأن معدلات الخصوبة في الصين، التي انخفضت بالفعل حتى قبل تطبيق سياسة الطفل الواحد، لأنها غالبا ما تقع جنبا إلى جنب مع التنمية الاقتصادية والتوسع الحضري، وباستثناء زيادة قصيرة لمدة عام واحد بعد السماح بإنجاب طفل ثان، استمرت معدلات الخصوبة في الانخفاض في الصين.
وقد خلص معهد يووا للأبحاث السكانية، وهو مركز أبحاث مقره بكين، إلى أن الصين هي من بين أكثر الأماكن تكلفة لتربية طفل وأن هذه المخاوف الاقتصادية - وليس السياسات الحكومية - مرتبطة بعدم رغبة النساء في إنجاب المزيد من الأطفال هذه الأيام، وفق المركز الأميركي.
بالإضافة إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال بشكل عام، تختار النساء في الصين إنجاب الأطفال في وقت لاحق من الحياة، فمنذ عام 2000، ارتفع متوسط سن الإنجاب في الصين بمقدار ثلاث سنوات، من 26 إلى 29 سنة، وبالمقارنة، ارتفع متوسط سن الإنجاب بمقدار عام واحد فقط في جميع البلدان المتوسطة الدخل (والتي تعد الصين جزءا منها).
ارتفع متوسط سن الزواج الأول جنبا إلى جنب مع سن الإنجاب في الصين. استنادا إلى بيانات من التعداد السكاني الصيني لعام 2020، و كان متوسط سن الزواج الأول للنساء في عام 2020 هو 28 عاما، ارتفاعا من 24 عاما في عام 2010. وقد استشهد البعض بسياسة الصين الخالية من فيروس كورونا كعامل مساهم في تأخر الأمومة.
اختلال في التكوين السكاني
وتعد الصين من بين الدول التي لديها أكثر نسبة انحراف بين الجنسين عند الولادة، وفقًا لدراسة أجراها مركز "بيو للأبحاث" مؤخرًا بناءً على بيانات الأمم المتحدة.
في الواقع، هناك 112 مولود ذكر لكل 100 ولادة أنثى، حتى أصبح في الصين بحلول عام 2021، هناك زيادة بين الرجال عن النساء بنحو 30 مليونا.
وتعاني الصين أيضًا من أعلى معدلات الإجهاض لكل 1000 امرأة تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عامًا مقارنة بأي بلد آخر، وفقًا لتقديرات "معهد جوتماشر"، فالصين لديها شيخوخة سريعة للسكان، ووفقا لوسائل الإعلام الرسمية الصينية، فإن البلاد تقترب بالفعل من سيناريو "الشيخوخة المعتدلة"، حيث يبلغ عمر 20% من سكانها 60 عاما فما فوق.
وبحلول عام 2035، من المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 30%، أو أكثر من 400 مليون شخص.
ويهاجر عدد أكبر من الأشخاص خارج الصين سنويًا مقارنة بالمهاجرين إليها، مما يؤدي إلى انخفاض عدد السكان بشكل أكبر. منذ عام 1950 على الأقل، عندما بدأت الأمم المتحدة في جمع الإحصاءات، كان لدى الصين عدد سلبي صافي من المهاجرين، مما يعني أن عدد الأشخاص الذين يغادرون البلاد أكبر من عدد الوافدين إليها.
وفي عام 2021، شهدت البلاد ما يقدر بنحو 200 ألف شخص من الهجرة الخارجية، ومع ذلك، فإن هذا يمثل انخفاضًا عن نقطة أعلى في أوائل التسعينيات، عندما كان نحو 750 ألف شخص أو أكثر يغادرون الصين سنويًا، وكجزء من توقعاتها المتغيرة المتوسطة، تتوقع الأمم المتحدة أن تستمر الصين في مواجهة صافي الهجرة السلبية حتى عام 2100 على الأقل، مع تقديرات تحوم حول 310.000 شخص يغادرون البلاد سنويًا، وفق مركز "بيو".
]]>