"مفاوضات غير معلنة".. ماذا يريد الكرملين من الشرع؟
وصف معهد كارنيغي للسلام الدولي الزيارة الأخيرة للرئيس السوري أحمد الشرع لموسكو بـ"التطور المفاجئ" والمثير للاهتمام في العلاقات الروسية - السورية، مشيرة إلى أن الشرع كان مطلوبا من قبل الجيش الروسي لسنوات طويلة واليوم هناك منعطف جديد في مسار العلاقات، وتقاطع نادر للمصالح بين موسكو ودمشق بعد سقوط الرئيس السابق بشار الأسد.
وأشار تقرير للمعهد صادر حديثا، إنه بالنسبة للنظام السوري الجديد، تمثل العلاقة مع روسيا فرصة لتعزيز الشرعية الداخلية والدولية، وللحصول على دعم اقتصادي وأمني في مواجهة أزمات متفاقمة. أما بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فتمثل اللقاءات مع الشرع محاولة لـ"حفظ ماء الوجه" بعد سقوط الأسد الذي خاضت موسكو إلى جانبه حربًا دامت عقدًا كاملًا، ولإظهار أن روسيا لا تزال لاعبًا أساسيًا في الشرق الأوسط رغم التراجعات الميدانية والعزلة السياسية.
صفحة جديدة في العلاقات الروسية–السورية
يؤكد تقرير كارنيغي أن وجود بشار الأسد كلاجئ سياسي في موسكو لم يشكّل حتى الآن عائقًا أمام إعادة بناء العلاقات بين الكرملين والقيادة الجديدة في دمشق، وهو ما يعكس حرص الجانبين على تجاوز الماضي والبحث عن توازن جديد للمصالح.
حين بدأت روسيا عمليتها العسكرية في سوريا قبل عشر سنوات لدعم النظام، كان أحد أهدافها الرئيسة "القضاء على الجماعات الإرهابية"، وعلى رأسها تنظيم جبهة النصرة بقيادة أحمد الشرع نفسه، الذي كان آنذاك من أبرز الوجوه الجهادية المرتبطة بـ«القاعدة». وبدفع من موسكو، أدرج مجلس الأمن جبهة النصرة على قائمة الإرهاب الدولية، وهو تصنيف لم يتغير رغم محاولات الجماعة لاحقًا تغيير اسمها والانفصال عن «القاعدة».
لكن سقوط نظام الأسد المفاجئ في نهاية العام الماضي، كما يوضح التقرير، أجبر روسيا على التكيف مع واقع جديد لم يكن في حسبانها: دمشق باتت تحت سيطرة جماعات كانت حتى الأمس القريب في خانة العداء. ومع ذلك، سعت موسكو سريعًا لفتح قنوات تواصل مع السلطات الجديدة، التي من جانبها أعلنت أنها "تمنح روسيا فرصة لإعادة النظر في علاقتها مع الشعب السوري".
اتصالات ومصالح متبادلة
بحلول يناير الماضي، كانت أول زيارة لوفد روسي إلى دمشق بعد سقوط النظام، برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف. وبعد أسبوعين فقط، أجرى بوتين اتصالًا هاتفيًا مع الشرع الذي أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية، تمهيدًا للقاء الذي جمعهما لاحقًا في الكرملين.
توضح الوثيقة أن الجانبين لديهما مصلحة واضحة في تعزيز التعاون: الشرع يسعى إلى تثبيت شرعيته أمام الداخل والخارج، بينما يحاول بوتين التأكيد أن بلاده "لم تخسر في سوريا كما خسرت إيران"، وأن وجودها في الشرق الأوسط ما يزال راسخًا رغم تقليص انتشارها العسكري هناك.
التحدي الأمني: الفوضى بعد الثورة
يرى التقرير أن الهمّ الأكبر لدمشق حاليًا هو الأمن الداخلي، إذ لم يتمكن "الجهاديون السابقون" الذين شكّلوا عماد السلطة الجديدة من فرض النظام في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. بل إنهم انخرطوا في نزاعات مع مكونات محلية، أبرزها الطائفة العلوية في الساحل حيث قُتل أكثر من 1500 مدني في مارس الماضي، ثم الدروز في الجنوب خلال شهري أبريل ويوليو.
في مواجهة هذا الوضع، طلب الشرع من بوتين خلال زيارته إلى الكرملين إعادة انتشار القوات الروسية في الجنوب السوري للمساعدة في ضبط الأمن. ويرى كارنيغي أن هذا الطلب يعبّر عن استعداد النظام الجديد لتقديم تنازلات سيادية مقابل استقرار ميداني يضمن بقاءه.
توازن القوى الإقليمي
يقول التقرير إن روسيا تملك مصلحة استراتيجية في العودة الميدانية المحدودة إلى سوريا، ليس فقط لضمان الاستقرار، بل أيضًا لموازنة النفوذ الإسرائيلي في الجنوب والتركي في الشمال. وجود وحدات روسية، حتى بأعداد رمزية، قد يجبر تل أبيب على الحد من غاراتها الجوية، كما يمنح دمشق ورقة ضغط في مواجهة أنقرة التي تسعى إلى توسيع قواعدها داخل الأراضي السورية.
وفي الشمال الشرقي، تبقى المعضلة الكردية أحد الملفات الحساسة. فالقوات الكردية ما تزال تسيطر على نحو 30% من أراضي البلاد وترفض الاندماج في الجيش السوري. لكن التقرير يشير إلى أن روسيا، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأكراد منذ عام 2016، يمكن أن تؤدي دور الوسيط بين الطرفين، مستفيدة من تراجع الوجود العسكري الأميركي شرق البلاد بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
مصالح اقتصادية واتفاقيات قديمة
تحتفظ روسيا بقاعدتين عسكريتين رئيسيتين في سوريا، هما طرطوس البحرية وحميميم الجوية في اللاذقية، بموجب اتفاق موقّع عام 2017 يمتد حتى عام 2066. وتُستخدم القاعدتان حاليًا كمنصتين لوجستيتين تدعمان العمليات الروسية في إفريقيا، ما يجعل الحفاظ عليهما أولوية استراتيجية للكرملين.
ويشير التقرير إلى أن الشرع أكد التزام حكومته "بجميع الاتفاقات السابقة بين موسكو ودمشق"، في إشارة إلى رغبة القيادة الجديدة في ضمان استمرار الدعم الروسي.
اقتصاديًا، تُقدّر الحكومة السورية الجديدة تكلفة إعادة الإعمار بعد 13 عامًا من الحرب بنحو 900 مليار دولار، وهو مبلغ يفوق قدرات روسيا الحالية. ومع ذلك، وعدت موسكو بالمشاركة في قطاعات محددة، أبرزها الطاقة والإغاثة الإنسانية. وقد تم الاتفاق على تزويد سوريا بالقمح والدواء والغذاء، والعمل المشترك في حقول النفط السورية.
كما يجري التحضير لعقد اجتماع للجنة الحكومية الروسية–السورية لتطوير التعاون التجاري والاقتصادي، فيما ستتولى شركة "غوزناك" الروسية طباعة عملة سورية جديدة بدلًا من الأوراق النقدية التي تحمل صور الرئيس المخلوع بشار الأسد.
مستقبل الأسد الغامض
بحسب تقرير كارنيغي، لا يزال الأسد يقيم في موسكو تحت حماية السلطات الروسية، لكن ملف تسليمه أو محاكمته لم يُطرح رسميًا بعد من قبل الحكومة السورية الجديدة. ويبدو أن الطرفين يفضلان إبقاء القضية معلّقة في الوقت الحالي، تجنبًا لإثارة توترات أو إحراج سياسي.
ويخلص التقرير إلى أن الأسد، رغم كونه "العنصر الغائب الحاضر"، لن يشكّل عقبة جوهرية أمام تطور العلاقات الجديدة بين دمشق وموسكو. فالأولوية بالنسبة للشرع هي الحفاظ على الحكم وضمان الأمن، بينما تركز موسكو على تثبيت مواقعها الجيوسياسية وحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
خاتمة
تُظهر الوقائع التي أوردها معهد كارنيغي للسلام الدولي أن العلاقة بين موسكو ودمشق تدخل مرحلة جديدة قوامها البراغماتية وتبادل المصالح، بعد عقد من التحالف القائم على الولاء الشخصي للأسد. واليوم، ومع تبدّل موازين القوى الإقليمية، تحاول روسيا تحويل خسارتها العسكرية والسياسية إلى مكسب استراتيجي طويل الأمد، فيما يجد النظام السوري الجديد نفسه مضطرًا للاعتماد على القوة التي كانت بالأمس خصمًا له.