مليارات الدولار لا تكفي.. إعمار سوريا يتطلّب أكثر من المال
قالمعهد كارنيغي للسلام الدولي إن عملية إعادة بناء سوريا لا يمكن اختزالها في ضخّ أموال ضخمة فحسب، بل تتطلّب استراتيجية شاملة وواضحة، تشارك فيها الحكومة والمجتمع والدول المانحة.
وأشار المعهد في تقرير بعنوان "سوريا بحاجة إلى خطة لإعادة الإعمار"، إلى أن الكلفة التقديرية لإعادة الإعمار تراوحت بين 141 و343 مليار دولار، مع "أفضل تقدير" بنحو 216 مليار دولار"، بينما أعلن وزير الاقتصاد السوري أن "ما لا يقلّ عن تريليون دولار" قد يكون مطلوبًا لإعادة بناء سوريا الجديدة.
لكن هذه الأرقام الكبيرة لا تؤشّر إلى نجاح تلقائي، إذ يؤكد التقرير أن "غياب إطار اقتصادي شامل" يجعل من إعادة الإعمار رهينة لشبكات المحسوبية التي سادت في عهد النظام السابق، ويحذّر من أن "العنف قد يعود كآلية مركزية لإعادة توزيع السلطة والثروة بين القوى المتنافسة".
لماذا «أكثر من المال»؟
أولًا، معضلة التركيز: تنصبّ الجهود الحالية على "توليد الإيرادات السريعة" عبر بيع العقارات وتأجير المرافق الكبرى للمستثمرين الأجانب، دون موازنة كافية للاستثمار في قطاعات منتجة مثل الصناعة والزراعة والخدمات، ما يهدد بخلق نمو هشّ وغير مستدام.
ثانيًا، غياب الشفافية والمساءلة: تفاصيل العقود المبرمة مع رجال أعمال، ومصير أصول حزب البعث، وصندوق الثروة السيادي الجديد، جميعها تفتقر إلى إطار حوكمي واضح، ما يعيق المساءلة ويهدّد فرص الاستثمار وتوزيعًا عادلًا للثروات.
ثالثًا، الحاجة إلى إصلاح مؤسساتي: فإعادة إعمار البنية التحتية لا تعني بالضرورة إعادة بناء الدولة، إذ يشير التقرير إلى أن النجاح الحقيقي يكمن في ترسيخ "حوكمة شفافة" و"مشاركة مجتمعية"، لا في الاكتفاء بترميم الطرق والمباني.
ما المطلوب؟
يطرح التقرير مجموعة من الشروط التي يجب أن تكون أساس أي خطة مستقبلية لإعمار سوريا:
عقد اجتماعي جديد يضم مختلف أطراف المجتمع السوري، ويضمن عدم عودة شبكات المحسوبية القديمة.
تنمية اقتصادية منتجة، تركّز على خلق فرص عمل مستدامة في القطاعات الحيوية بدل الاعتماد على مشاريع إعمار شكلية.
إطار مالي وحوكمي شفاف، يراقب عمليات التمويل والاستثمار ويحد من الفساد المؤسسي.
انفتاح سياسي تدريجي، يسمح بإشراك فئات أوسع في عملية صنع القرار ويعزّز الثقة بين الدولة والمواطنين.
المخاطر المحتملة
يحذّر التقرير من أن غياب رؤية وطنية شاملة قد يجعل إعادة الإعمار مجرد إعادة إنتاج لـ"اقتصاد الريع" الذي ساد قبل الحرب، حيث تتركّز الثروة في يد النخبة الحاكمة. كما أن استمرار الإقصاء السياسي قد يُبقي على جذور التوتر والعنف، ويقوّض أي محاولة لتحقيق الاستقرار الدائم.
دور المجتمع الدولي
يؤكد معهد كارنيغي أن المجتمع الدولي مطالبٌ بتبنّي مقاربة أكثر واقعية تجاه الملف السوري، تقوم على "ربط التمويل بالإصلاح"، أي اشتراط المساعدات بإجراءات حقيقية لمكافحة الفساد وضمان الشفافية. كما يرى أن على الدول المانحة التنسيق في ما بينها لتجنّب تكرار أخطاء ما بعد حرب العراق أو البوسنة، حيث فُقدت مليارات الدولارات في شبكات الفساد وضعف الإدارة.
ويشير التقرير إلى أن "المال وحده لن يعيد سوريا إلى الحياة"، لأن إعادة الإعمار تحتاج إلى إعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، وإرساء قواعد حكم رشيد تضع حدًا لاقتصاد الحرب ولتغوّل الأجهزة الأمنية.
خاتمة
يخلص التقرير إلى أن سوريا لا تحتاج إلى الأموال بقدر ما تحتاج إلى رؤية جديدة، تُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتمنح الأولوية لبناء مؤسسات فاعلة قادرة على إدارة الموارد بعدالة. ويؤكد أن أي مشروع إعمار لا يضع الإصلاح السياسي والمؤسسي في قلب خطته سيبقى مشروعًا هشًّا محكومًا بالفشل.
ويختتم بالقول إن "إعادة الإعمار ليست عملية مالية بل عملية سياسية بامتياز"، مشيرًا إلى أن مستقبل سوريا لن يُرسم في ميزانيات المانحين فقط، بل في مدى استعداد نظامها لتبنّي التغيير الحقيقي الذي يفتح الباب أمام سلام مستدام وتنمية عادلة.