هل تدفع أوروبا ثمن تجاهل التحذيرات من "الإخوان"؟

على مدار عقود، تغلغلت جماعة "الإخوان المسلمين" داخل المجتمعات الأوروبية، في ظل ما يصفه مراقبون بـ"تواطؤ الصمت السياسي" و"التباس المفاهيم" حول طبيعة التنظيم وأهدافه. وبينما كانت أجهزة الاستخبارات الأوروبية تحذر من خطر تصاعدي "هادئ وغير عنيف" تمثّله الجماعة، كانت الحكومات تتعامل مع حضورها إما بالتجاهل أو بإدماجها ضمن المجتمع المدني، مما منحها فرصة لتثبيت أقدامها وتوسيع نفوذها.

بنية مزدوجة.. خطاب معتدل وتنظيم سري

ما يميّز جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا هو اعتمادها على ما يُعرف بـ"البنية المزدوجة" – ظاهرها الاعتدال والتقوى والعمل الخيري، وباطنها أيديولوجي منغلق يسعى إلى إعادة تشكيل المجتمعات على أسس دينية وسياسية مستمدة من فكر الجماعة الأم في الشرق الأوسط.

تقديرات أمنية في كل من فرنسا وبلجيكا وألمانيا تشير إلى أن الجماعة لا تسعى إلى العنف المباشر مثل الجماعات الجهادية، لكنها تتبع نهج "التمكين البطيء" من خلال السيطرة على المساجد، الجمعيات، المؤسسات التعليمية، والمراكز الثقافية التي تؤثر في الرأي العام داخل الجاليات المسلمة.

انقسام أوروبي في الموقف

تعامل الحكومات الأوروبية مع الجماعة كان وما يزال محل جدل. ففي حين اعترفت بعض الدول بخطر محتمل للجماعة، امتنعت أخرى عن اتخاذ مواقف حاسمة. بلجيكا، على سبيل المثال، حذرت أجهزتها الاستخباراتية مرارًا من أن "الإخوان" تمثّل "أولوية قصوى" في إطار مكافحة التطرف غير العنيف. التقرير الصادر عن جهاز الأمن البلجيكي عام 2022 كشف أن الجماعة تستخدم منظمات واجهة لجمع الأموال والترويج لأجندة فكرية تتعارض مع القيم الأوروبية.

أما فرنسا، التي تأخرت كثيرًا في التعامل مع التهديد، فقد أقرّت في السنوات الأخيرة بخطورة تمدد "الإخوان" في ضواحي المدن الكبرى مثل باريس ومرسيليا، وأطلقت حملات لتفكيك الجمعيات المرتبطة بها، في إطار ما يُعرف بـ"مكافحة الانفصالية الإسلامية".

في المقابل، ظلت دول مثل بريطانيا وألمانيا مترددة. ففي بريطانيا، رفضت الحكومة تصنيف "الإخوان" كمنظمة إرهابية رغم توصيات برلمانية وأمنية متكررة، واكتفت بالإشارة إلى "وجود صلات إيديولوجية مشبوهة" دون إجراءات عملية حاسمة.

تسلُّل عبر منظمات المجتمع المدني

استفادت الجماعة من سياسات الانفتاح والديمقراطية الأوروبية لتأسيس واجهات متنوعة: اتحادات طلابية، منظمات شبابية، مراكز أبحاث، ومؤسسات حقوقية. أبرزها "منتدى الشباب الأوروبي المسلم" (FEMYSO)، الذي تموله مصادر متعددة تشمل الاتحاد الأوروبي، وتعرّض مؤخرًا لتحقيقات بشأن علاقاته بالجماعة.

وفقًا لتحقيق نشره موقع Brussels Morning، فإن FEMYSO، التي قدّمت نفسها كممثّل شرعي للشباب المسلم في أوروبا، مارست ضغوطًا لتعديل خطاب الاتحاد الأوروبي حول "حرية التعبير" و"الإساءة إلى الرموز الدينية"، في محاولة لتحجيم نقد الإسلام السياسي وربطه بخطاب الكراهية.

الأمر لم يتوقف عند المؤسسات الشبابية، بل شمل منظمات نسوية وجمعيات حقوقية مرتبطة بجماعة "CEM"، التي وُثقت مشاركتها في مؤتمرات إسلامية متطرفة ولقاءاتها مع شخصيات محسوبة على التنظيم الدولي.

دعم خارجي.. ومال سياسي

واحدة من القضايا الأكثر حساسية هي التمويل. فالجماعة تتلقى دعمًا سخيًا من دول مثل قطر وتركيا، بحسب تقارير متعددة من مراكز بحثية أوروبية. هذا الدعم مكّنها من بناء شبكات إعلامية ومساجد ضخمة ومراكز تعليمية تتبع منهجًا فكريًا يكرّس الانفصال الثقافي والاجتماعي داخل الجاليات المسلمة.

في فرنسا مثلًا، أثارت قضية تمويل "مسجد النور" في مدينة ليل من قبل مؤسسة قطرية الجدل، بعدما ثبت أنه يُدار من قبل شخصيات مرتبطة بـ"الإخوان"، كما تبيّن أن منهج التعليم الداخلي للمركز يتضمن مواد تدعو إلى رفض القيم العلمانية الفرنسية.

غطاء الاعتدال والتسلل السياسي

تُحسن الجماعة استخدام خطاب "الاعتدال" في العلن، فهي ترفض العنف علنًا وتدعو إلى التعايش السلمي، لكنها – كما يشير محللون – تنشر فكرًا لا يقل خطورة عن العنف الجهادي، كونه يعمل على المدى الطويل لتغيير بنية المجتمع.

في البرلمان الأوروبي، نجحت بعض الواجهات المرتبطة بالإخوان في الوصول إلى منصات صنع القرار، عبر "خطاب الضحية" والاستفادة من قضايا العنصرية والإسلاموفوبيا، مما مكّنها من جذب دعم سياسي من تيارات اليسار والليبراليين.

في المقابل، يحذّر خبراء من أن هذا التسلل السياسي يهدف في نهاية المطاف إلى فرض رؤية دينية – سياسية تتعارض مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، معتبرين أن "الإخوان" ليست مجرد حركة دينية، بل مشروع أيديولوجي عابر للحدود.

تغيّر في المواقف.. ولكن متأخر

أمام هذا الواقع، بدأت بعض الحكومات الأوروبية في تغيير موقفها. ففي ألمانيا، دعت وزارة الداخلية إلى مراقبة المؤسسات التعليمية والدينية المرتبطة بـ"الإخوان"، وأوصت بتقليص الدعم الحكومي لها.

وفي فرنسا، أُغلقت عشرات الجمعيات والمدارس المرتبطة بالجماعة، كما أقر البرلمان قانونًا جديدًا ينص على تعزيز الرقابة على مصادر التمويل الخارجي للمساجد.

لكن هذه التحركات، رغم أهميتها، تأتي بعد سنوات من التراخي، ما يجعل من مهمة تفكيك الشبكة المعقدة التي أنشأتها الجماعة أكثر صعوبة.

هل فات الأوان؟

الانتقادات الموجّهة للحكومات الأوروبية لا تتعلق فقط بالتأخير، بل بالخلط المتعمد بين "حرية المعتقد" و"التنظيمات السياسية الدينية". فبينما يُفترض بالديمقراطيات حماية الحريات الدينية، فإن استخدام الدين كغطاء لمشروع سياسي توسّعي يثير تساؤلات حول حدود التسامح وواجب الحماية المجتمعية.

ختامًا، يبدو أن أوروبا بدأت، ولو متأخرة، في إدراك أن الخطر لا يأتي فقط من السلاح، بل من الفكر الهادئ الذي يتسلل باسم الاعتدال، ويزرع بذور الانفصال داخل المجتمعات. ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر: هل تستطيع القارة العجوز احتواء هذا التغلغل دون المساس بالحريات التي قامت عليها مجتمعاتها؟

Next
Next

للتغطية على خسائر الحرب.. أكراد إيران يخشون "قمع" النظام