أزمة غذاء.. جفاف غير مسبوق يلتهم قمح سوريا

صورة التُقطت بطائرة مُسيّرة تُظهر انخفاضًا حادًا في منسوب المياه في بحيرة القرعون، إحدى أكبر خزانات المياه في لبنان، 6 أغسطس 2025. (أسوشيتد برس)

في الوقت الذي كان السوريون يأملون فيه أن تعود بلادهم تدريجيًا إلى الاستقرار بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، جاءت الطبيعة لتضيف جرحًا جديدًا إلى الجراح المفتوحة. فموجة جفاف غير مسبوقة تضرب سوريا منذ أواخر عام 2024، لتلقي بظلال كارثية على الأمن الغذائي، وتهدد ملايين السكان بمجاعة صريحة.

ووفقًا لتقرير موسّع نشرته جريدة واشنطن بوست الأمريكية، يعد هذا الجفاف هو الأسوأ منذ ما يقرب من 36 عامًا، إذ أدى إلى تراجع إنتاج القمح –المحصول الاستراتيجي الأهم في سوريا– بنسبة تصل إلى 40 في المئة مقارنة بالسنوات السابقة، ما يعني عجزًا يصل إلى 2.7 مليون طن من الحبوب. هذا الرقم وحده كفيل بترك 16 مليون شخص من دون خبز كافٍ لعام كامل.

جفاف تاريخي يضرب قلب الزراعة السورية

تعتمد سوريا تاريخيًا على الزراعة كركيزة رئيسية لاقتصادها وأمنها الغذائي، لكن موجات الحرارة الشديدة وتراجع الأمطار أفرغت السهول من خصوبتها. لم يعد سوى 40 في المئة من الأراضي الزراعية قابلاً للإنتاج، فيما شهدت محافظات الحسكة وحلب وحمص أكبر الخسائر.

يقول المزارع منصور محمود الخطيب، الذي يملك أرضًا صغيرة قرب ضاحية السيدة زينب في دمشق، إن محصوله تراجع إلى ربع ما كان يحصده في الأعوام الطبيعية. ويضيف: "الأرض عطشى، لا ماء ولا مطر… هذا موسم نصف فقط". ويشير إلى أنه لم يعد يحتاج إلا لستة عمال بدلًا من 15 كانوا يشتغلون معه سابقًا، ما يعكس حجم الانكماش الزراعي على مستوى الإنتاج والعمالة معًا.

الغذاء يتحول إلى رفاهية

لا يقف الأمر عند حدود ضعف الإنتاج. فارتفاع الأسعار جعل الحصول على الغذاء بالنسبة لمعظم السوريين رفاهية بعيدة المنال. وفق التقرير ذاته، فإن سلة غذائية أساسية لأسرة مكونة من خمسة أشخاص باتت تكلف نحو 2.5 مليون ليرة سورية شهريًا، في حين لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 280 ألف ليرة. بمعنى آخر، يحتاج المواطن إلى خمسة أضعاف راتبه تقريبًا لتغطية الاحتياجات الأساسية.

هذا التفاوت القاتل جعل ملايين الأسر السورية تعتمد على المساعدات الإنسانية، في وقتٍ تراجع فيه الدعم الدولي إلى مستويات خطيرة. وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة حذر مؤخرًا من أن أكثر من 416 ألف طفل يواجهون خطر سوء التغذية الحاد، ما لم يتم توفير تمويل عاجل يتجاوز 335 مليون دولار.

انتقال سياسي هش يزيد التعقيد

تزامن هذا الانهيار الزراعي مع مرحلة سياسية حساسة. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 وتشكيل حكومة بقيادة أحمد الشرع، لم تنجح البلاد بعد في تحقيق الاستقرار. الاضطرابات الأمنية وانتشار عمليات النهب وقطع الإمدادات الغذائية في مناطق مثل السويداء وحلب والحسكة وحمص، كلها عوامل فاقمت التحديات أمام السلطة الجديدة.

في ظل هذه الأوضاع، يجد صانعو القرار أنفسهم أمام معادلة صعبة: كيف يمكن توفير الخبز والطعام لملايين الجوعى، بينما الاقتصاد منهك، والبنية التحتية الزراعية شبه منهارة، والمساعدات الخارجية تتراجع؟

المجتمع الدولي يغض الطرف؟

توضح واشنطن بوست أن المجتمع الدولي لم يعد يولي الأزمة السورية الاهتمام الكافي مقارنة بما كان عليه الحال قبل سنوات. التركيز الغربي تحوّل إلى ملفات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا وتصاعد التوتر في الشرق الأوسط، بينما تراجعت المخصصات المالية الموجهة لدعم السوريين.

النتيجة أن وكالات الإغاثة تواجه خطر وقف بعض برامجها قريبًا، وهو ما سيترك ملايين السوريين من دون مصدر غذاء أساسي. ومع أن بعض المساعدات ما زالت تصل عبر منظمات محلية ودولية، إلا أن حجم الاحتياجات يفوق بكثير ما هو متاح.

مأساة إنسانية على الأبواب

تشير التقديرات الأممية إلى أن نحو 14.5 مليون سوري يعيشون حاليًا حالة من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 9.1 مليون يعانون أزمة حادة بالفعل، و5.4 مليون معرضون للانزلاق إلى مستويات أكثر خطورة. هذه الأرقام تعني أن ثلثي الشعب السوري تقريبًا باتوا أمام مواجهة مباشرة مع الجوع.

المشهد في القرى الزراعية مؤلم: أراضٍ متشققة، محاصيل يابسة، عائلات تقتات على الخبز اليابس والشاي، وأطفال ينامون جوعى. في المخيمات المنتشرة شمال البلاد، يتفاقم الوضع أكثر مع قلة المياه الصالحة للشرب وانعدام الكهرباء، ما يجعل تخزين الطعام شبه مستحيل.

ترابط المناخ والسياسة والاقتصاد

ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد أزمة طارئة مرتبطة بالطقس، بل هو انعكاس لمزيج معقد من الأزمات. فالتغير المناخي ضرب الزراعة في صميمها، والاقتصاد المتهالك بعد سنوات الحرب أفقد الدولة القدرة على التدخل الفعال، أما الانقسام السياسي وفقدان الثقة بين المكونات السورية فجعلا الاستجابة الوطنية هشة وضعيفة.

ولعل ما يميز هذه الأزمة عن سابقاتها أنها تأتي في وقتٍ يتراجع فيه الدعم الخارجي، مما يضع عبئًا أكبر على الداخل السوري نفسه، الذي بالكاد يملك الموارد أو البنية الأساسية لمواجهة كارثة بهذا الحجم.

الخلاصة: سوريا على حافة الجوع

ما تكشفه واشنطن بوست هو أن سوريا تقف اليوم عند مفترق خطير: إما أن يتدخل المجتمع الدولي بجدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر مساعدات عاجلة ودعم للقطاع الزراعي، أو أن البلاد مقبلة على أسوأ مجاعة في تاريخها الحديث.

الأرض التي كانت يومًا سلة خبز للشرق الأوسط، تحولت إلى أرض عطشى تنتظر المطر، بينما شعبها يصطف أمام طوابير الخبز القليل المتبقي. إنها مأساة مرشحة لأن تتحول إلى كارثة إقليمية إذا تُركت بلا حل، لأن الجوع لا يبقى محصورًا في حدود دولة واحدة، بل يهدد استقرار المنطقة برمتها.

Previous
Previous

إضعاف الحوثيين.. كيف تغيّر إسرائيل قواعد اللعبة في اليمن؟

Next
Next

الإمارات ترسل فريق بحث وإنقاذ لأفغانستان لمساعدة ضحايا الزلزال