تضم العشرات.. كيف أوقعت إسرائيل بشبكة التجسس الإيرانية؟
في مشهد يعكس الصراع الاستخباراتي بين إسرائيل وإيران، كشفت صحيفة "ذا نيويورك تايمز" في تقرير موسع تفاصيل واحدة من أبرز القضايا الأمنية التي شغلت الداخل الإسرائيلي مؤخرًا، بعدما أعلنت السلطات عن تفكيك شبكة واسعة من المواطنين الذين جرى تجنيدهم عبر الإنترنت للعمل لصالح الاستخبارات الإيرانية.
القضية، التي طالت العشرات من مختلف فئات المجتمع، لم تقتصر على أعمال بسيطة بل وصلت إلى التخطيط لعمليات اغتيال.
البداية.. رسالة على "تيليغرام"
تعود خيوط القضية إلى صيف 2024 حين تلقى فلاديسلاف فيكتورسون، وهو شاب إسرائيلي يبلغ من العمر 31 عامًا ويعيش في إحدى ضواحي تل أبيب، رسالة غير متوقعة عبر تطبيق تيليغرام. الرسالة تضمنت عرضًا مغريًا لكسب المال مقابل مهام تبدو بسيطة. لم يتردد فيكتورسون في قبول العرض، وكانت مهمته الأولى كتابة شعارات مناهضة للحكومة على الجدران، بينها مقارنة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأدولف هتلر.
مع شريكته أنيا بيرنشتاين (19 عامًا)، حصل الثنائي على 600 دولار مقابل تلك المهام الأولية. لكن ما بدا في البداية كعمل محدود اتضح لاحقًا أنه جزء من شبكة تجنيد تديرها المخابرات الإيرانية، وفق ما أكدته الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام "الشاباك".
التصعيد التدريجي في المهام
بحسب لوائح الاتهام التي استعرضتها "ذا نيويورك تايمز"، لم يتوقف الأمر عند الشعارات. إذ تصاعدت المطالب سريعًا: تخريب صناديق الكهرباء باستخدام حمض الكبريتيك، إشعال الحرائق في السيارات، تركيب عبوة بدائية باستخدام بخاخ شعر ومفرقعات، وصولًا إلى التخطيط لاغتيال أستاذ جامعي إسرائيلي مقابل مئة ألف دولار.
المحققون أكدوا أن هذه الأساليب تمثل تكتيكًا استخباراتيًا تقليديًا يُعرف بـ"تصعيد المهام"، حيث تبدأ بمهام صغيرة مقابل مبالغ زهيدة، ثم تتطور تدريجيًا إلى أعمال أكثر خطورة مع وعود مالية مغرية. الهدف هو اختبار ولاء المجندين ودفعهم تدريجيًا إلى الانخراط في أعمال تخريبية أو إرهابية.
من التظاهر إلى الاغتيال
وفقًا للائحة الاتهام، عرض المُشغِّل على فيكتورسون تسوية ديونه إذا ما نفذ عملية الاغتيال، بل وعده بلقاء في روسيا لنقله إلى بلد ثالث. في إحدى المراحل، أخبر فيكتورسون مشغله أنه قادر على شراء بندقية قنص مقابل 21 ألف دولار، غير أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية كانت قد وضعت الثنائي تحت المراقبة. وفي سبتمبر 2024، ألقي القبض عليهما قبل تنفيذ أي عملية قتل.
القضية لم تتوقف عند فيكتورسون وبيرنشتاين. فبحسب الشاباك والشرطة الإسرائيلية، جرى خلال العام الماضي تفكيك أكثر من 25 قضية مشابهة وإحباط عشرات المحاولات الأخرى. واعتُقل ما يزيد عن 40 شخصًا على خلفية التورط مع جهات مرتبطة بإيران.
ما يلفت الانتباه أن المتهمين ينتمون إلى خلفيات متنوعة: يهود متدينون وعلمانيون، مهاجرون من دول مختلفة، عرب من داخل إسرائيل، جندي في الجيش، وحتى مستوطن من الضفة الغربية. أصغر المتورطين يبلغ من العمر 13 عامًا، فيما يُعد موتي مامان، رجل أعمال سبعيني فاشل عاش حياة بذخ، الأكبر سنًا بينهم. مامان حُكم عليه بالسجن عشر سنوات بعدما سافر مرتين إلى إيران بشكل سري وناقش مع ضباط إيرانيين خططًا لاغتيال سياسي إسرائيلي.
أهداف إيران
يرى محللون أمنيون تحدثت إليهم الصحيفة الأمريكية أن إيران لا تراهن على تجنيد أفراد قادرين على إحداث اختراقات نوعية بحد ذاتها، بقدر ما تسعى إلى زعزعة الداخل الإسرائيلي وإثارة الشكوك حول ولاء المواطنين. فحتى وإن كانت معظم المهام صغيرة أو رمزية، إلا أن مجرد وقوع إسرائيليين في فخ التعاون مع طهران يُعد مكسبًا دعائيًا وسياسيًا لطهران.
ويقول شالوم بن حنان، المسؤول السابق في الشاباك، إن هذه العمليات تُبنى على مبدأ "القليل مقابل القليل"، حيث يُغرى المجند بمبالغ بسيطة لأعمال تبدو غير مؤذية، ثم يُدفع تدريجيًا إلى مستويات أخطر، حتى يجد نفسه أمام عرض لا يمكن رفضه، كصفقة اغتيال بمبالغ ضخمة.
حرب الظلال المستمرة
إسرائيل وإيران تخوضان منذ عقود حربًا صامتة خارج العناوين. إسرائيل بدورها نفذت عمليات نوعية داخل إيران استهدفت منشآت نووية وعلماء بارزين، وهو ما تعترف به تقارير استخباراتية غربية. في المقابل، تحاول إيران الرد عبر دعم جماعات مسلحة على حدود إسرائيل، أو عبر محاولات اختراق ناعمة من خلال الإنترنت وتجنيد مواطنين.
منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023 بقيادة حركة حماس، تقول إسرائيل إن إيران كثفت محاولات تجنيد مواطنيها، في محاولة لتأجيج التوتر الداخلي وإضعاف الجبهة الداخلية.
المال.. والعملات الرقمية
أظهرت مراجعة لوائح الاتهام أن معظم المبالغ المدفوعة للمجندين كانت زهيدة نسبيًا، وغالبًا ما لم تتجاوز بضعة آلاف من الدولارات، ودُفعت عبر العملات الرقمية. هذه الطريقة تتيح للمشغّلين الإيرانيين هامشًا من السرية في تحويل الأموال، لكنها لم تمنع الشاباك من تتبع بعض الخيوط وكشف الشبكات.
في بعض الحالات، اقتصر الدور على أعمال مراقبة، مثل تصوير مواقع حساسة أو رصد تحركات وزراء ومسؤولين عسكريين. بينما تضمنت حالات أخرى محاولات لزرع كاميرات قرب منزل وزير الدفاع الإسرائيلي، أو توثيق طرق قرب مواقع عسكرية.
محامو المتهمين
رغم حجم القضية، لم تخلُ التحقيقات من ثغرات. فالمحامون الذين يدافعون عن بعض المتهمين قالوا إن لوائح الاتهام لم تتضمن صراحة ذكر إيران أو نقل معلومات إلى عدو. محامي فيكتورسون، إيغال دوتان، أكد أن موكله خضع لتحقيقات مطولة من قبل الشاباك دون حضور محامٍ، وأن الجلسات لم تُسجل بالصوت أو الصورة، ما يصعّب الطعن في صحة الإفادات.
إلا أن الشرطة والشاباك أصرا على أن العملية كانت تحت إشراف قضائي، وأن المواد السرية التي تثبت تورط إيران لا يمكن الكشف عنها للرأي العام. وهنا يبرز سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية الاعتماد على السرية في مواجهة التحديات القانونية والإعلامية؟
حملة توعية
في ظل اتساع الظاهرة، أطلقت الحكومة الإسرائيلية حملة توعية عبر الإذاعة ومنصات التواصل الاجتماعي تحذر من إغراءات "المال السهل"، مؤكدة أنه قد يقود إلى "ثمن باهظ" يتمثل في سنوات طويلة من السجن. وتؤكد السلطات أنها ستواصل ملاحقة هذه المحاولات التي ترى فيها تهديدًا للأمن القومي.
خلاصة
القضية التي كشفتها "ذا نيويورك تايمز" ليست مجرد ملف جنائي بقدر ما تعكس طبيعة المواجهة المعقدة بين إيران وإسرائيل. فبينما تحقق إسرائيل ضربات استخباراتية عميقة في الداخل الإيراني، تحاول طهران بدورها اختراق إسرائيل. ورغم أن أغلب العمليات أُحبطت في مراحلها المبكرة، إلا أن وجود عشرات المتهمين من خلفيات متنوعة يسلط الضوء على خطورة "الحرب الناعمة" التي تخوضها إيران، وعلى التحديات التي تواجه إسرائيل في الحفاظ على تماسك جبهتها الداخلية وسط صراعات إقليمية متصاعدة.