إيران تعيد رسم تحالفاتها.. تقارب أكبر مع الصين وروسيا
بينما لا تزال تداعيات الحرب الإيرانية-الإسرائيلية تتردد في الإقليم، تسارع طهران إلى إعادة رسم خريطة تحالفاتها الدولية، مستفيدة من خطوط التصدّع الجيوسياسية بين الغرب من جهة، والمحور الروسي-الصيني من جهة أخرى. تقرير تحليلي صادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أشار إلى أن إيران بدأت فعليًا استغلال هذه الانقسامات في النظام الدولي لتأمين مصالحها، وتجاوز أزمتها الاستراتيجية بعد المواجهة الكبرى مع إسرائيل في ربيع 2025.
فرصة في قلب الفوضى
يرى التقرير أن إيران، رغم الخسائر التي تكبدتها في الضربات الإسرائيلية الموجعة، لم تخرج من المواجهة ضعيفة بالكامل. على العكس، وجدت في هذه الحرب فرصة نادرة لتعميق تحالفاتها مع الصين وروسيا، خاصة في ظل التوتر المتصاعد بين هاتين الدولتين والغرب.
ولعل اللافت، حسب معهد واشنطن، هو تسارع وتيرة اللقاءات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بين طهران وكل من موسكو وبكين، في الأشهر الثلاثة التي تلت المواجهة. هذه التحركات لا تُفهم فقط في سياق البحث عن مظلة سياسية، بل في إطار مسعى إيراني أشمل لإعادة موضعة نفسها داخل النظام العالمي الجديد الذي يتشكل بفعل الانقسام الدولي العميق.
التحالف مع بكين: تكنولوجيا واستثمارات مقابل ولاء استراتيجي
على الصعيد الصيني، يشير التقرير إلى أن بكين ترى في إيران شريكًا طويل الأمد ضمن مشروعها "الحزام والطريق"، وخصوصًا في ممر الطاقة الحيوي الممتد من آسيا الوسطى إلى الخليج. وقد تعمّقت العلاقات في الفترة الأخيرة عبر تعزيز التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي والمراقبة الرقمية وتكنولوجيا الطائرات المسيّرة، وهو ما يُثير قلق واشنطن والعواصم الأوروبية.
التقرير يحذر من أن إيران ربما تستورد منظومات مراقبة صينية الصنع يمكن أن تعزز من قبضة النظام على الداخل الإيراني، وتقوّض فرص التغيير الديمقراطي. كما أن بكين، في المقابل، تحصل على موطئ قدم جيوسياسي بالغ الأهمية في المنطقة، من خلال الدعم العلني لمواقف طهران في المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
روسيا: شراكة عسكرية وأمنية تتجاوز أوكرانيا
أما العلاقة مع موسكو، فتمثل وجهًا آخر لهذا التحالف المتعمق. يوضح التقرير أن روسيا، التي تخوض حرب استنزاف في أوكرانيا، باتت تعتمد بشكل متزايد على تكنولوجيا الطائرات المسيّرة الإيرانية، وعلى الدعم السياسي الإيراني في المحافل الدولية. في المقابل، حصلت طهران على أنظمة دفاع جوي متطورة من طراز S-400، وتكنولوجيا متقدمة في مجال الحرب الإلكترونية.
الأهم من ذلك، أن إيران وروسيا وقّعتا في يوليو الماضي اتفاقًا لتبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالتحركات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، وهو ما يُعد تطورًا نوعيًا في مستوى التنسيق الأمني بين الطرفين.
محاولات لتجاوز العزلة الاقتصادية
من أبرز النقاط التي ركز عليها التقرير، أن إيران تسعى من خلال هذا التقارب إلى الالتفاف على العقوبات الغربية، خاصة الأمريكية. فمن خلال توقيع اتفاقيات مبادلة تجارية مع كل من موسكو وبكين، تتجنب طهران النظام المالي الدولي التقليدي، وتستخدم عملات غير الدولار مثل اليوان والروبل.
كما أن المشاريع المشتركة في قطاع الطاقة، وخاصة الاتفاقيات المتعلقة بتطوير حقول النفط في الجنوب الإيراني بتمويل صيني، تمنح إيران متنفسًا اقتصاديًا حيويًا، في وقت يواجه فيه اقتصادها ضغوطًا هائلة بسبب العزلة الغربية.
دور الحرب في إعادة تشكيل الخيارات
يؤكد معهد واشنطن أن الحرب الأخيرة مع إسرائيل لم تكن فقط مواجهة عسكرية، بل لحظة فاصلة أعادت صياغة أولويات النظام الإيراني. فبينما فشل الحرس الثوري في تحقيق نصر حاسم، أدركت القيادة الإيرانية الحاجة إلى إعادة تعريف استراتيجيتها الأمنية والاقتصادية بشكل جذري.
ويشير التقرير إلى أن خامنئي والدوائر المقربة منه باتوا يرون في التوجه شرقًا ضرورة وجودية، وليست مجرد تكتيك مؤقت. هذا التحول يترافق مع تغييرات داخل المؤسسة السياسية والعسكرية الإيرانية، أبرزها صعود تيار "التحالف الأوراسي" داخل مجلس الأمن القومي، والذي يدفع باتجاه الارتباط الكامل بمحور موسكو-بكين.
مخاوف من تبعات إقليمية
لا يُخفي التقرير قلقه من أن تؤدي هذه التحالفات إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. إذ أن امتلاك إيران لأنظمة تسليح متطورة ودعم سياسي من قوى عظمى قد يغريها بتكرار المغامرة العسكرية، سواء في اليمن أو على حدود إسرائيل أو حتى في العراق.
كما أن هذا التحول يعقّد جهود واشنطن في بناء تحالفات إقليمية، ويقوّض آمال العودة إلى الاتفاق النووي، الذي أصبح الآن أقرب إلى الأرشيف منه إلى الواقع.
التحالف الهش... والمخاطر الكامنة
ورغم هذا الزخم في العلاقات، يحذر معهد واشنطن من المبالغة في تقدير متانة التحالف الإيراني مع موسكو وبكين. فهناك مصالح متضاربة، وحذر واضح من جانب الصين وروسيا في تقديم دعم غير مشروط لطهران، خاصة إذا كانت السياسات الإيرانية قد تجر المنطقة إلى مواجهة شاملة مع الغرب أو إسرائيل.
كما أن الملف النووي يبقى نقطة خلافية، إذ تخشى موسكو وبكين من سباق تسلح نووي إقليمي إذا ما استمرت طهران في تسريع تخصيب اليورانيوم، ما قد يُحبط طموحات التطبيع والاستثمار في الشرق الأوسط.
الخلاصة: إيران تتموضع شرقًا... ولكن بثمن
يلخّص التقرير أن إيران ما بعد الحرب مع إسرائيل ليست كما قبلها. فهي تسعى بقوة إلى تثبيت نفسها كعضو فاعل في "محور مقاومة الغرب"، وتوظف الحرب كذريعة لتقوية علاقتها مع القوى الأوراسية. إلا أن هذا التوجه، رغم مكاسبه الظاهرة، يحمل في طياته مخاطر استراتيجية على المدى الطويل، سواء من حيث فقدان الاستقلالية أو التعرض لمزيد من العزلة من جانب الجوار العربي والغربي.
ويؤكد معهد واشنطن أن المرحلة القادمة ستشهد اختبارًا حقيقيًا لهذا التوجه الإيراني، خاصة إذا ما قررت طهران تصعيد مواجهتها مع واشنطن أو مواصلة دعم وكلائها في الإقليم. فبين تعزيز التحالفات والانزلاق نحو المواجهة، تقف إيران عند مفترق حاسم سيحدد مستقبلها لعقود قادمة.