واشنطن بوست: حزب الله لم يعد قادرا على الإفلات من المحاسبة في "انفجار بيروت"
خمسة أعوام مرّت على الانفجار الكارثي الذي دمّر قلب بيروت وأودى بحياة أكثر من مئتي شخص، لكن مشهد المساءلة لا يزال معلقًا فوق رؤوس اللبنانيين، مشبعًا بالغضب، ومثقلاً بأسئلة العدالة المؤجلة.
تقرير جديد نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في الذكرى السنوية الخامسة للكارثة، حمل نبرة حاسمة بأن زمن الإفلات من العقاب قد اقترب من نهايته، حتى بالنسبة لأكثر الأطراف نفوذًا في البلاد، في إشارة مباشرة إلى حزب الله.
ذاكرة الألم... وصرخة العدالة
في 4 أغسطس 2020، دوّى انفجار ضخم في مرفأ بيروت بعد اشتعال نترات الأمونيوم المخزنة لسنوات دون إجراءات سلامة. الانفجار أوقع أكثر من 220 قتيلاً وآلاف الجرحى، مخلّفًا دمارًا واسعًا في العاصمة، وموجة غضب شعبية لم تهدأ حتى اليوم.
لكن، وعلى الرغم من حجم الكارثة، لم يُحاسب أي مسؤول سياسي أو أمني رفيع حتى الآن. ومع تعثّر التحقيقات الداخلية، وتصاعد الاتهامات بالتسييس، بدأ الرأي العام المحلي والدولي يُدرك أن السبب لا يكمن في غياب الأدلة، بل في قوة العرقلة السياسية.
القاضي البيطار: عدالة مكمّمة
يُشكّل القاضي طارق البيطار رمزًا لمسار قضائي شاق اصطدم منذ بداياته بجدار من التهديدات والضغوط. فبحسب تقرير واشنطن بوست، كان حزب الله، ومن خلفه منظومة سياسية عميقة، من أبرز معارضي البيطار، عبر تحريك دعاوى قضائية لكفّ يده، وصولًا إلى التهديد المباشر.
ورغم نفي الحزب أي علاقة له بشحنة نترات الأمونيوم، إلا أن التسريبات الأمنية، وشهادات دبلوماسية، ومحاضر قضائية سُرّبت لاحقًا، ألمحت إلى ضلوع عناصر من الحزب في إدارة وتشغيل جزء من العنابر المتصلة بالمادة المتفجرة، أو على الأقل معرفتهم بوجودها.
وفي مشهد لا يُنسى، اقتحم مناصرون للحزب ومجموعات حليفة قصر العدل في بيروت في أكتوبر 2021 احتجاجًا على استدعاءات البيطار، ما أدى إلى اشتباكات مسلّحة داخل الأحياء المحاذية للمحكمة، في لحظة بدت وكأن العدالة نفسها تتعرض لإعدام ميداني.
تحولات سياسية تعيد نبض التحقيق
لكنّ المشهد تغير تدريجيًا منذ بداية العام 2025. فمع انتخاب جوزيف عون رئيسًا للجمهورية وتشكيل حكومة برئاسة نواف سلام، بدا أن القبضة التي مارسها حزب الله على مفاصل الدولة بدأت تتراخى. وبحسب واشنطن بوست، فإن هذه التحولات السياسية منحت القاضي البيطار غطاءً مؤسساتيًا لاستئناف تحقيقاته دون عرقلة واضحة.
وزارة العدل، عبر الوزير الجديد عادل نصّار، أكّدت في أكثر من مناسبة التزامها "بحماية استقلال القضاء ورفض أي تدخل سياسي في التحقيق". هذا التصريح، الذي مرّ قبل أعوام كخطاب بروتوكولي، بات اليوم أحد مؤشرات التغيير الجاد.
ضغوط عائلات الضحايا... وصمود الذاكرة
"لا يمكن أن تُدفن الحقيقة مع أبنائنا"، تقول سارة كوبلاند، الأم الأسترالية التي فقدت طفلها البالغ من العمر عامين في الانفجار. كوبلاند أصبحت، كما يصفها التقرير، واحدة من أبرز الأصوات العالمية الداعية لتحقيق دولي، وتنقلت بين العواصم الأوروبية والأمم المتحدة للمطالبة بلجنة تحقيق مستقلة.
كما حضرت الذكرى السنوية الخامسة للانفجار هذا العام أجواء مشحونة بالعاطفة، لكن مختلفة في المزاج السياسي. عند ركام الصوامع المحترقة، وقف الأهالي حاملين صور ضحاياهم، مؤكدين أن "لا تسوية على حساب الدم".
ورغم مساعي بعض الجهات لإزالة الصوامع، نجحت جهود المجتمع المدني ووزارة الثقافة في تثبيت الموقع كنصب تذكاري، وأُطلقت مبادرات فنية، أبرزها مشروع الفنانة نادى سهناوي التي أعادت تركيب صور الضحايا على زجاج متطاير، ليظلّ المشهد شاهدًا لا يُمحى.
حزب الله في زاوية ضيقة
في الجزء الأكثر حساسية من تقرير واشنطن بوست، تشير الصحيفة إلى أن حزب الله، الذي لطالما تعامل بمنطق فوق الدولة، لم يعد بمنأى عن المحاسبة. وتلفت الصحيفة إلى أن الضغوط المحلية والدولية، والتحوّلات السياسية، وتنامي ثقة القضاء، كلها عناصر بدأت تُضيّق الخناق على الحزب، سواء من خلال المسار القضائي الداخلي أو عبر تحقيقات أممية قد تفتح أبوابها قريبًا.
وتضيف الصحيفة أن إصرار البيطار على استدعاء مسؤولين مقرّبين من الحزب، وتراكم الوثائق التي تربط بين المرفأ وشبكات تهريب يديرها "الحزب"، تضع الأخير أمام تحدٍ غير مسبوق: إما مواجهة العدالة، أو تعريض نفسه لمزيد من العزلة.
العد العكسي للمحاسبة بدأ
اللافت في التقرير هو النبرة الجازمة التي ختمت بها الصحيفة تحليلها. إذ كتبت:
"إذا كان حزب الله قد نجح في السنوات الماضية بعرقلة التحقيق، فإن العدّ العكسي لمساءلته بدأ فعليًا. الأمر لم يعد مرتبطًا فقط بإرادة القاضي البيطار، بل أصبح جزءًا من دينامية سياسية داخلية وضغوط دولية لا يمكن تجاهلها".
في هذا السياق، يُنتظر خلال الأشهر المقبلة أن يصدر البيطار قرارات اتهامية قد تشمل شخصيات أمنية وسياسية من الصف الأول، وربما تمتد إلى عناصر مرتبطة بالحزب، وهو ما قد يُشكّل لحظة مفصلية في العلاقة بين القضاء والمنظومة التي كانت تعتبر نفسها فوق القانون.
خاتمة
انفجار مرفأ بيروت لم يكن مجرد حادث عابر، بل لحظة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. خمس سنوات من المراوغة، الإنكار، وتسييس العدالة لم تُفلح في طمس الحقيقة. والآن، يبدو أن موازين القوة بدأت تتغيّر.
وفق ما نشرته صحيفة واشنطن بوست، فإن التحقيق يعود بقوة، والمحاسبة تقترب، ولو بخطى بطيئة لكنها ثابتة. وحزب الله، الذي طالما لجأ إلى التهديد لتفادي المحاسبة، يجد نفسه اليوم محاصرًا بشهود، وملفات، ورأي عام لبناني ودولي، لم يعد يقبل بتأجيل العدالة أكثر.