بعد الحرب والدمار… تراجع الدعم الشعبي لحماس يُعيد تشكيل المشهد السياسي في غزة
يشهد قطاع غزة، بعد الحرب المدمّرة التي طالت مدنه وبناه التحتية، تحوّلاً واضحًا في المزاج الشعبي تجاه حركة حماس، في ظل مؤشرات متزايدة على تراجع الدعم للحركة التي ظلت تحكم القطاع منذ عام 2007. هذا التحوّل، الذي رصدته مجلة فورين آفيرز في تقرير تحليلي حديث، يعيد صياغة النقاش الفلسطيني الداخلي حول مستقبل الحكم في غزة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول البدائل الممكنة، وقدرة القوى السياسية المختلفة على ملء أي فراغ قد ينشأ في حال إعادة هيكلة السلطة داخل القطاع.
إرهاق شعبي عميق بعد عام من الدمار
تصف فورين آفيرز الوضع في غزة بأنه حالة «إرهاق جماعي» غير مسبوقة، إذ أدت أشهر الحرب إلى تدمير قطاعات واسعة من الأحياء السكنية، وانهيار منظومات الخدمات الأساسية، وتفاقم المعاناة الإنسانية، من نزوح واسع، وارتفاع عدد الشهداء والمصابين، وتوقف شبه كامل للحياة الاقتصادية.
ورغم أن سكان غزة اعتادوا سنوات من الحصار والمعاناة، فإن مستوى الدمار في الحرب الأخيرة خلق واقعًا جديدًا، باتت فيه شريحة واسعة من السكان تُعيد تقييم خياراتها السياسية، وتطرح أسئلة صعبة حول جدوى استمرار نموذج الحكم الحالي، وحجم المسؤولية التي تتحملها حماس في ما آلت إليه الأوضاع، سواء من زاوية إدارتها للقطاع أو من زاوية دخولها في مواجهة دامية مكلفة.
وترى المجلة أن ما تغيّر ليس مجرد حجم الانتقاد، بل اتساعه، وجرأة الأصوات التي باتت، للمرة الأولى منذ سنوات، تعبّر علنًا عن استيائها من طبيعة الحكم، وعن رغبتها في نموذج سياسي وإداري مختلف يضمن الأمن الشخصي والخدمات الأساسية وإعادة الإعمار الفعلي.
أرقام لافتة… مؤشرات على تحوّل الرأي العام
وفقًا للتقديرات والاتجاهات التي تناولها تقرير فورين آفيرز، فإن نحو نصف سكان غزة باتوا أكثر استعدادًا للتخلي عن دعم حماس، بما يعكس مستوى التحوّل في المزاج العام.
ورغم أن الحركة لا تزال تمتلك قاعدة دعم معتبرة، خصوصًا وسط شرائح ترى فيها رمزاً للمقاومة أو تعتبر بدائلها ضعيفة، فإن الاتجاه العام يشير إلى تقلّص الوزن الشعبي للحركة، مقابل صعود مطالبات بإدارة مدنية أو تكنوقراطية تكون قادرة على إعادة الإعمار وإعادة تشغيل الخدمات.
وترى المجلة أن هذا التحول لا يعني بالضرورة تراجعًا أيديولوجيًا عن فكرة المقاومة أو عن رفض الاحتلال، بل يعكس بحثًا عن «صيغة حكم» تتوافق مع متطلبات الحياة اليومية التي انهارت بشكل شبه كامل خلال الحرب، وباتت في مقدمة أولويات السكان.
عوامل التراجع: بين سوء الإدارة والحرب القاسية
يُرجع التقرير هذا التراجع في الدعم إلى مجموعة عوامل متراكبة:
1- الضربة الإنسانية الكبرى
الحرب الأخيرة، بما خلّفته من دمار شامل في غالبية مدن القطاع، جعلت المواطنين يشعرون بأن حياتهم اليومية لم تعد قابلة للاستمرار. دُمِّرت مساكن ومرافق ومستشفيات ومدارس، وتدهورت البنية التحتية إلى مستوى غير مسبوق. ومع فقدان عشرات الآلاف من الأسر لمساكنها، باتت الأولويات متركزة على النجاة وإعادة الإعمار لا على الشعارات السياسية.
2- شعور متزايد بفشل الإدارة المدنية
على مدى سنوات، كانت هناك انتقادات لمستوى الخدمات في غزة، من كهرباء ومياه وصحة واقتصاد. الحرب عمّقت هذه الانتقادات ووسّعتها، إذ وجد السكان أنفسهم دون منظومة قادرة فعليًا على إدارة الأزمة، وسط غياب بدائل فاعلة داخل مؤسسات الحكم التابعة للحركة.
3- تراكم أصوات النقد داخل المجتمع
رصدت فورين آفيرز أن الأصوات المنتقدة — التي كانت محدودة أو متخفية سابقًا بسبب القبضة الأمنية أو حساسية المشهد — أصبحت أكثر ظهورًا هذه المرة، خصوصًا بين الفئات الأكثر تضررًا من الحرب. وهذه الأصوات لم تعد تكتفي بانتقاد الأداء، بل تدعو صراحة إلى إعادة بناء النظام السياسي في غزة على أسس جديدة.
خيارات ما بعد حماس: سيناريوهات متعددة تتصدر النقاش
يشير تقرير فورين آفيرز إلى أن تراجع الدعم الشعبي لحماس يعيد فتح ملف مستقبل الحكم في غزة. وتستعرض المجلة ثلاثة سيناريوهات رئيسية يجري تداولها في الأوساط الفلسطينية والإقليمية منها:
إدارة تكنوقراطية مستقلة
تجري مناقشات حول إمكان تشكيل إدارة مدنية مستقلة، تضم شخصيات مهنية غير حزبية تتولى تشغيل الخدمات وتنسيق إعادة الإعمار. هذا النموذج يحظى بقبول نسبي لدى قطاعات من سكان غزة الذين يبحثون عن إدارة «محايدة وعملية».
إلا أن تطبيقه يصطدم بإشكاليات عديدة، أبرزها قبول حماس به، وقدرتها على الانسحاب من المواقع التنفيذية، وضمان ألا يتحول إلى «وصاية خارجية» بغطاء تقني.
عودة السلطة الفلسطينية
يرى البعض أن السلطة الفلسطينية، رغم ضعفها، قد تكون البديل الطبيعي إذا تم التوصل إلى اتفاق سياسي شامل. لكن شريحة واسعة في غزة لا تزال مترددة في قبول هذا السيناريو، بسبب فقدان الثقة في أداء السلطة بالضفة، وبسبب الانقسام السياسي المستمر منذ 2007.
نموذج مختلط أو مجلس حكم مؤقت
هناك أيضًا طرح يتحدث عن تشكيل مجلس حكم موسّع يضم ممثلين عن مختلف الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس ولكن ضمن إطار محدود وغير مسيطر، إلى جانب ممثلين مدنيين. هذا النموذج، في حال تطبيقه، قد يُجنب القطاع فراغًا سياسيًا خطيرًا، ويضمن تمثيلًا أوسع للشارع الغزي.
تحديات كبرى أمام أي تغيير
تشير فورين آفيرز إلى أن أي سيناريو لإعادة تشكيل المشهد السياسي في غزة لن يكون سهلًا، إذ تعترضه مجموعة من التحديات:
موقف حماس من التخلي عن السيطرة
الحركة أعلنت مرارًا أنها قد تقبل بصيغة «إدارة مدنية» لكنها لا تنوي التخلي عن سلاحها أو دورها كقوة سياسية وعسكرية. هذا الموقف يجعل أي انتقال للسلطة معقّدًا ومشحونًا بالتوترات المحتملة.
الانقسام الفلسطيني الداخلي
لا يزال الانقسام بين الضفة وغزة من أكبر العقبات أمام إعادة بناء نظام سياسي موحد. ورغم وجود رغبة شعبية متنامية لإنهاء الانقسام، فإن العقبات التنظيمية والسياسية لا تزال كبيرة.
الضغوط الإقليمية والدولية
الوسطاء الإقليميون والدول الكبرى يتعاملون مع غزة بوصفها ملفًا أمنياً قبل أن يكون سياسيًا أو إنسانيًا، ما قد يدفع نحو حلول مفروضة لا تلقى قبولًا محليًا، أو لا تلائم الواقع الاجتماعي داخل القطاع.
خطر الفراغ الأمني
تُحذّر المجلة من أن غياب وجود بديل منظّم ومؤسساتي لحماس، قد يؤدي إلى فراغ أمني خطير، أو صعود جماعات صغيرة قد لا تملك القدرة على ضبط الأمن.
تحوّل مفصلي في المشهد… لكنه ليس نهائيًا
في ختام تحليلها، ترى فورين آفيرز أن تراجع الدعم الشعبي لحماس يمثّل أكبر تحوّل سياسي في غزة منذ أكثر من 15 عامًا، لكنه ليس تحولًا نهائيًا أو مضمون النتائج. فالحركة ما زالت تحتفظ بقدرات عسكرية وتنظيمية كبيرة، وما زالت تُقدّم نفسها كحركة مقاومة في مواجهة الاحتلال، وهي ورقة لا يزال لها وزن لدى جزء من السكان.
لكن المؤكد — بحسب المجلة — أن الحرب غيّرت الأولويات، وأن تحديات الحياة اليومية أصبحت معيارًا رئيسيًا لا يمكن لأي قوة سياسية تجاهله، وأن مرحلة ما بعد الحرب ستكتبها حاجة الناس إلى الأمن، والسكن، وإعادة الإعمار، أكثر مما تكتبها الشعارات الأيديولوجية.
ومع اتساع دائرة البحث عن بدائل، يبدو القطاع مقبلًا على مرحلة سياسية حساسة ومعقدة، قد تعيد صياغة شكل الحكم وطبيعة القوى الفاعلة فيه، وتفتح الباب أمام ترتيبات جديدة للسلطة الفلسطينية، أو أمام صيغ هجينة تشارك فيها القوى والفصائل والمجتمع المدني، في محاولة لتجنب الفوضى وصنع مسار مستقر لإعادة بناء غزة.