بعد رفع العقوبات.. ماذا تنتظر أميركا من سوريا؟
في خطوة اعتبرها البعض "تاريخية"، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أواخر يونيو 2025، أمرًا تنفيذيًا قضى برفع جزء كبير من العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا منذ عام 2004، في إطار ما وصفه البيت الأبيض بأنه "إعادة ضبط استراتيجية للشرق الأوسط". هذه الخطوة، وإن بدت سياسية واقتصادية في ظاهرها، تعكس تحوّلات أعمق في ميزان القوى الإقليمي، ومقاربات جديدة لواشنطن في ملفات الأمن، الطاقة، والتطبيع العربي الإسرائيلي.
رفع العقوبات جزئيًا
القرار الرئاسي الذي صدر في 30 يونيو 2025، أنهى فعليًا حالة "الطوارئ الوطنية" التي كانت تتيح للولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على سوريا. كما شمل القرار إصدار "رخصة عامة" من وزارة الخزانة الأميركية، تسمح بإجراء معاملات مالية واستثمارية مع الحكومة السورية المؤقتة، والبنك المركزي السوري، والقطاعات الإنتاجية غير المرتبطة بالعنف أو الإرهاب أو تجارة المخدرات.
وبينما رحّب مراقبون بالقرار باعتباره بداية جديدة لسوريا ما بعد الحرب، حذّر آخرون من مخاطره السياسية على صعيد ملف العدالة الانتقالية، وحقوق الضحايا، ودور إيران في الداخل السوري.
ماذا تغيّر في سوريا؟
منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، وتفاقمها لاحقًا بفعل تدخلات إقليمية ودولية، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي طيفًا واسعًا من العقوبات ضد نظام بشار الأسد، شملت البنك المركزي، وقطاع الطاقة، والطيران، وحتى الوزارات الخدمية.
غير أن التطور المفصلي جاء في منتصف عام 2024، حين سقط نظام الأسد إثر تحالف بين فصائل معارضة معتدلة وقيادات منشقة عن الجيش، بدعم عربي – غربي، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشريعة، وهو دبلوماسي مخضرم محسوب على الخط الوسطي.
وبعد أشهر من الانتقال السياسي الهش، ومع تعهد الحكومة الجديدة بانتخابات نزيهة، ودستور جديد، ومحاسبة رموز النظام السابق، بدأت واشنطن تلمّح إلى إمكانية تخفيف العقوبات. جاء القرار الأخير لترامب كتكريس لذلك التوجّه.
الدوافع الأميركية: الجغرافيا أولًا
وفقًا لتحليلات نشرها معهد واشنطن وسياسة الشرق الأدنى، فإن إدارة ترامب الجديدة وجدت نفسها أمام ضرورة "احتواء تمدد النفوذ الإيراني والروسي في مرحلة ما بعد الأسد". ورأت أن دعم سوريا المستقرة اقتصاديًا هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك، بالتوازي مع حماية الحدود الشمالية لإسرائيل، وتشجيع انخراط سوريا في "اتفاقات أبراهام" الموسعة.
كما تسعى واشنطن إلى فتح الباب أمام شركات أميركية وخليجية للمساهمة في إعادة إعمار البنية التحتية المنهكة، وتوسيع نفوذها الاقتصادي على حساب الصين وروسيا.
القرار أتى أيضًا بعد زيارة لافتة قام بها ترامب إلى الرياض في مايو الماضي، التقى خلالها الرئيس السوري أحمد الشرع، في أول قمة مباشرة بين رئيس أميركي وزعيم سوري منذ أكثر من 25 عامًا.
فرصة لإعادة البناء
الرئيس أحمد الشرع رحّب بالقرار الأميركي، ووصفه بأنه "إقرار دولي بثقة المجتمع الدولي في مسار التحول السياسي السوري".
وأضاف في مؤتمر صحفي من دمشق: "هذا يوم جديد لسوريا. لقد عانى شعبنا طويلًا من الحرب والعزلة والفقر. الآن أمامنا فرصة لفتح الأسواق، خلق الوظائف، وجذب الاستثمارات".
أما وزير الخارجية الأميركي، فصرّح بأن "رفع العقوبات لا يعني نهاية الرقابة"، وأكد أن الأفراد المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، أو المقرّبين من النظام الإيراني، ما زالوا خاضعين لعقوبات صارمة.
💸 ماذا تعني "الرخصة العامة"؟
الرخصة التي أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية، وتعرف باسم GL-25، تتيح: "إعادة فتح الحسابات البنكية الخارجية للحكومة السورية المؤقتة، والسماح بالتحويلات المالية لأغراض إنسانية وتجارية، وتسهيل دخول شركات البناء والطاقة الأميركية إلى السوق السوري، وإعادة دمج سوريا في النظام المصرفي العالمي، بعد خروجها منه منذ أكثر من 13 عامًا".
لكنها في المقابل تحظر أي تعامل مع شخصيات مشمولة بعقوبات قانون "قيصر" أو من تم تصنيفهم كإرهابيين أو ضالعين في تجارة الكبتاغون، وهو أحد أبرز التحديات أمام الاقتصاد السوري الجديد.
قانون قيصر ما زال قائمًا
من الجدير بالذكر أن قانون "قيصر لحماية المدنيين السوريين"، الذي أُقر في 2019، ما زال نافذًا، ويمنح وزارة الخزانة صلاحيات استثنائية لفرض عقوبات على أي جهة تتعامل اقتصاديًا مع شخصيات أو مؤسسات مرتبطة بالنظام السابق.
وقد شدد البيت الأبيض على أن القرار الجديد لا يتعارض مع القانون، وإنما يوفر استثناءات محددة تحت شروط صارمة، مرتبطة بالشفافية، وحوكمة المشاريع، وعدم استفادة أي جهة فاسدة من الأموال.
نظرة إلى المستقبل: بين الفرص والتحديات
من الناحية الاقتصادية، يتوقع محللون أن يؤدي رفع العقوبات إلى انتعاش تدريجي في القطاعات الأساسية مثل الطاقة، النقل، الزراعة، والبناء.
كما سيفتح الباب أمام عودة ملايين السوريين في الشتات إلى وطنهم، إذا توفرت الضمانات الأمنية والمعيشية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في مدى قدرة الحكومة السورية المؤقتة على فرض سلطتها فعليًا في مختلف أنحاء البلاد، وخصوصًا في المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة للنفوذ الكردي، أو الجنوبية التي تعاني من اختراقات خلايا متطرفة.
يبقى أيضًا عامل العلاقات مع إسرائيل، والذي تشير تقارير إلى أنه سيكون مفتاحًا رئيسيًا لمزيد من الانفتاح الأميركي والأوروبي. وتحدثت مصادر دبلوماسية عن لقاءات غير معلنة عقدت مؤخرًا في أبوظبي بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، برعاية إماراتية.
خلاصة
قرار ترامب برفع العقوبات عن سوريا لا يمكن اعتباره مجرد إجراء اقتصادي، بل هو تحوّل استراتيجي يعكس إعادة ترتيب خريطة المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط.
وبينما تتطلع دمشق الجديدة إلى استعادة مكانتها في الإقليم، تظل أسئلة العدالة والشفافية والمحاسبة معلقة، في بلد لا تزال جراحه مفتوحة، وأحلامه معلّقة على خيوط السياسة الدولية.