الحياة تحت حكم الحوثيين.. سجون وتجويع وأشخاص فوق المحاسبة

كشف تحقيق موسّع لوكالة «رويترز» عن صورة شديدة القتامة للحياة في مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، حيث تمتزج أدوات القمع الأمني مع منظومة تجويع ممنهجة، وتُدار الموارد والمساعدات الدولية بعقلية الولاء والطاعة، فيما تتراجع الدولة والقانون أمام سلطة أفراد «فوق المحاسبة».
يستند التحقيق إلى عشرات المقابلات مع معتقلين سابقين، وموظفين في منظمات إغاثة، ومسؤولين محليين، فضلًا عن وثائق داخلية وشهادات من سكان صنعاء وصعدة والحديدة، ليكشف عن واقعٍ بات فيه المواطن اليمني يعيش بين الخوف والجوع، بلا أفق واضح للخلاص.

القبضة الأمنية والرقابة الشاملة

في المدن الخاضعة للحوثيين، لا شيء يجري خارج نظر الجماعة. كاميرات المراقبة تنتشر في الشوارع، والعيون البشرية تتابع في كل حيّ.
يقول أحد الصحفيين السابقين لرويترز إن العمل الإعلامي المستقل أصبح «انتحارًا»، إذ يخضع كل مقال أو منشور على وسائل التواصل لرقابة مسبقة، فيما تُراقب المكالمات والرسائل بشكل روتيني.
الاعتقال لا يحتاج إلى إذن أو تهمة واضحة. مجرد نقدٍ للحالة المعيشية أو اعتراض على سياسات الجماعة يكفي لاقتياد صاحبه إلى سجن سري.
يصف أحد المعتقلين السابقين التجربة قائلاً: «دخلت السجن لأنني رفضت حضور فعالية طائفية. ظللت أسبوعين في زنزانة مظلمة، لا يُسمح لي بالكلام أو النوم».

ويشير التقرير إلى أن الحوثيين يديرون شبكة واسعة من السجون في صنعاء وصعدة والحديدة، بعضها تحت إشراف مباشر من قادة الجماعة. وفي هذه السجون تُمارس أشكال مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، من الضرب والصعق الكهربائي إلى الحرمان من الطعام والدواء.

عبادة الشخصية وتقديس القائد

يرصد التحقيق جانبًا آخر من نظام الحكم الحوثي يقوم على «عبادة الزعيم» عبدالملك الحوثي، الذي لا يظهر علنًا لكنه يُقدَّم كرمز مقدّس لا يُنتقد ولا يُسائل.
تُعرض خطبه بشكل إلزامي في المدارس والمؤسسات الحكومية، وتُفرض جلسات أسبوعية على الموظفين والطلاب لترديد شعارات الجماعة وتأكيد الولاء للقائد.
أحد المعلمين قال: «أصبحنا نبدأ الحصص بخطاب سياسي وننهيها بشعار ديني. التعليم لم يعد لتنوير العقول بل لغرس الطاعة».

ويرى مراقبون أن هذا النمط من السيطرة الفكرية يستند إلى خليط من الخطاب الديني والمظلومية التاريخية، يهدف إلى خلق هوية سياسية مغلقة تُبرر بقاء الجماعة في السلطة مهما كان الثمن.

تجويع الشعب وتحويل المساعدات إلى سلاح

تُعد السيطرة على المساعدات الإنسانية إحدى الركائز الأساسية لحكم الحوثيين، إذ تحوّلت الإغاثة إلى وسيلة للهيمنة.
يوضح التحقيق أن الجماعة تدير قوائم المستفيدين من المساعدات عبر مشرفين موالين لها، وتوزّع الحصص وفق الولاء السياسي أو المشاركة في الفعاليات.
يقول موظف إغاثة محلي: «كنا نتلقى تعليمات بتقليص المساعدات للعائلات التي ترفض حضور التجمعات أو إرسال أبنائها إلى معسكرات الحوثيين».

ويشير التقرير إلى أن عشرات آلاف الأطنان من القمح والزيت تُسرق أو تُباع في السوق السوداء بإشراف مباشر من عناصر حوثية.
النتيجة أن ملايين اليمنيين يعيشون على حافة الجوع رغم تدفق المساعدات الدولية، فيما تتضاعف ثروات بعض قادة الجماعة الذين أصبحوا يمتلكون عقارات وشركات تجارية في صنعاء وذمار والحديدة.

الأطفال في جبهات القتال

من أخطر ما يكشفه التحقيق هو استمرار تجنيد الأطفال في صفوف الحوثيين، حيث يتم استغلال الفقر والجهل لتعبئة المراهقين والزجّ بهم في جبهات القتال.
تتحدث شهادات عن حملات تجنيد تُدار عبر المدارس والمساجد، تحت عناوين «الجهاد» و«الدفاع عن الوطن».
ويروي أحد الصبية الذين نجوا من القتال: «قالوا لنا إننا نحارب الكفار، وإن الموت في الجبهة طريق إلى الجنة. لم نكن نعلم أننا سنُستخدم دروعًا بشرية».

وتشير الأمم المتحدة إلى أن آلاف الأطفال جُنّدوا منذ بداية الحرب، معظمهم في مناطق سيطرة الحوثيين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.

اقتصاد الحرب ونهب الموارد

رغم الحرب والحصار، لم يتوقف الحوثيون عن جباية الأموال. فالتجار وأصحاب الورش والمزارعين يُجبرون على دفع إتاوات تحت مسميات «دعم الجبهات» أو «الزكاة الجهادية».
ويقول أحد التجار إن عناصر الجماعة يزورون محله مرتين شهريًا لجباية الأموال، مضيفًا: «إذا لم تدفع، يغلقون المحل أو يتهمونك بالخيانة».
في المقابل، يعيش الموظفون في المناطق الحوثية بلا رواتب منذ سنوات، ما دفع كثيرين إلى بيع ممتلكاتهم أو العمل في مهن هامشية لتأمين لقمة العيش.

ويصف التحقيق هذا الاقتصاد بأنه «اقتصاد حرب مغلق» يخدم النخبة الحوثية فقط، فيما يزداد الفقر بين العامة. وقد أدت هذه السياسات إلى انهيار الطبقة المتوسطة، وتحول المجتمع إلى طبقتين: قلة ثرية مرتبطة بالجماعة، وغالبية فقيرة مسحوقة.

خوف بلا نهاية

لا يقتصر القمع على الرجال. النساء أيضًا يواجهن الاعتقال والتعذيب إذا خالفن تعليمات الجماعة أو شاركن في احتجاجات.
إحدى الناشطات التي اعتقلت عام 2023 قالت لرويترز إنها احتُجزت في سجن خاص بالنساء وأُجبرت على توقيع اعترافات وهمية.
وتضيف: «كنا نُعامل كأدوات، يتحدثون عن الشرف وهم يهينوننا في كل لحظة».

ويؤكد التقرير أن الحوثيين يستخدمون الخوف كسلاح مركزي لإخضاع المجتمع. فالأمن الداخلي التابع للجماعة يتغلغل في كل المؤسسات، ويزرع المخبرين حتى في المساجد والمستشفيات.
هذا الخوف المستمر جعل الناس يتحدثون همسًا، ويتجنبون حتى الشكوى من انقطاع الكهرباء أو ارتفاع الأسعار.

غياب المحاسبة والعجز الدولي

يرى التحقيق أن أحد أسباب استمرار هذا الواقع هو غياب المساءلة الدولية الحقيقية. فالجماعة تمنع المنظمات الأجنبية من التنقل بحرية، وتفرض شروطًا على عملها، ما يجعل توثيق الانتهاكات أمرًا بالغ الصعوبة.
الضغوط الأممية غالبًا ما تُواجه بتصعيد ميداني أو تهديدات بطرد موظفي الإغاثة.
وبينما يتبادل الحوثيون والحكومة الشرعية الاتهامات، يبقى المدنيون في مناطق سيطرة الجماعة ضحايا صامتين.

ويشير محللون إلى أن غياب الردع الدولي شجّع الحوثيين على المضي قدمًا في سياساتهم القمعية، وتحويل اليمن إلى منطقة نفوذ مغلقة، حيث الكلمة العليا للسلاح والعقيدة.

خاتمة

يختتم التحقيق برؤية قاتمة لمستقبل اليمنيين في ظل سلطة الحوثيين، حيث تتقاطع الأيديولوجيا الدينية مع الفساد المالي، في نظامٍ يعتمد على الخوف والتجويع لضمان البقاء.
ففي بلد أنهكته الحرب والدمار، يجد المواطن نفسه محاصرًا بين سلطة لا تُحاسب، ومجتمع يختنق يومًا بعد يوم.
تحت حكم الحوثيين، لم يعد الجوع مصادفة، ولا الفقر قَدَرًا، بل سياسة ممنهجة لإخضاع الناس وإدامة السيطرة، بينما يواصل العالم الاكتفاء بالبيانات والقلق.

Previous
Previous

"لغة المستقبل".. الإمارات تبني قراراتها على تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي

Next
Next

باستعراض عسكري وفلكلوري..الرقة تحيي ذكرى هزيمة تنظيم داعش