لدعم العدالة.. الإمارات تقود ثورة "القضاء الذكي"
تشهد دولة الإمارات العربية المتحدة تحوّلاً جذريًا في قطاع العدالة بفضل اعتمادها المتسارع على تقنيات الذكاء الاصطناعي والرقمنة في منظومة القضاء. هذا التحوّل الذي يصفه خبراء القانون بـ"الثورة الصامتة" لا يقتصر على تحسين كفاءة المحاكم فحسب، بل يفتح آفاقًا جديدة أمام مفهوم "العدالة الذكية" التي تجعل التقاضي أسرع وأكثر شفافية وأقل تكلفة، مع تعزيز ثقة المجتمع في المنظومة القضائية.
القضاء في قلب التحوّل الرقمي
منذ أكثر من عقدين، تبنّت الإمارات استراتيجيات للتحوّل الرقمي في مختلف القطاعات، غير أنّ القضاء حظي بأولوية خاصة، باعتباره الركيزة التي تقوم عليها سيادة القانون وضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فقد أطلقت وزارة العدل ودائرة القضاء في أبوظبي ومحاكم دبي سلسلة مبادرات رقمية، شملت المحاكم الافتراضية، والتقاضي عن بُعد، واستخدام الأنظمة الذكية في إدارة الملفات القضائية.
وبحسب تقرير نشره موقع "Mondaq»"القانوني المتخصص، فإن الإمارات باتت من الدول الرائدة عالميًا في استخدام التكنولوجيا لدعم قطاع العدالة، مستندة إلى مزيج من التشريعات المتقدمة، والبنية التحتية الرقمية، ورؤية استراتيجية تتماشى مع أهداف "مئوية الإمارات 2071" التي تسعى لأن تكون الدولة الأفضل عالميًا في مختلف المجالات، بما فيها العدالة.
الذكاء الاصطناعي يقتحم قاعات المحاكم
أحد أبرز ملامح الثورة القضائية في الإمارات هو إدخال الذكاء الاصطناعي في مسار التقاضي. فالنظام الذكي لا يقتصر على الأرشفة أو فرز الملفات، بل يذهب أبعد من ذلك من خلال تحليل النصوص القانونية، ورصد الأنماط في السوابق القضائية، واقتراح مسارات بديلة لتسوية النزاعات.
على سبيل المثال، طورت بعض المحاكم منصات قادرة على تقديم مسودات أحكام استنادًا إلى البيانات المتوافرة، بحيث تكون للقاضي حرية المراجعة والتصحيح. ويؤكد خبراء أن هذه الخطوة قد تساهم في تقليص زمن إصدار الأحكام، وتحسين مستوى الدقة عبر تقليل الأخطاء البشرية.
تسوية المنازعات إلكترونيًا
إلى جانب المحاكم التقليدية، برزت مبادرات رائدة مثل "مركز التسوية الرقمية للمنازعات" في دبي، الذي يتيح للأفراد والشركات تقديم دعاوى بسيطة عبر الإنترنت، والحصول على تسوية سريعة دون الحاجة للحضور شخصيًا أمام القاضي. هذه التجربة التي أثبتت نجاحها خلال جائحة "كوفيد-19" تحولت اليوم إلى نموذج دائم، وامتدت لتشمل نزاعات تجارية ومدنية وعقارية.
ويشير المحامي الإماراتي الدكتور محمد المرزوقي إلى أن هذه المراكز "تعكس فلسفة الإمارات في تقريب العدالة من المتقاضين، وخفض التكاليف والإجراءات، مع ضمان نفس الدرجة من الشفافية التي توفرها المحاكم التقليدية".
تشريعات داعمة وبيئة قانونية مرنة
لا يكتمل نجاح "القضاء الذكي" من دون بنية تشريعية قادرة على استيعاب هذا التحوّل. وفي هذا الإطار، أصدرت الإمارات قوانين متقدمة في مجالات التوقيع الرقمي، وحماية البيانات، والتجارة الإلكترونية، مما سمح للمحاكم باعتماد المستندات الإلكترونية كأدلة رسمية. كما أطلقت محاكم متخصصة في الجرائم السيبرانية وقضايا التكنولوجيا، وهو ما يعكس إدراك الدولة لتحديات العصر الرقمي.
العدالة في متناول الجميع
من الناحية العملية، سهّل القضاء الذكي الوصول إلى العدالة لفئات واسعة من المجتمع. فالمقيمون في مناطق نائية أو أصحاب الإعاقات الجسدية لم يعودوا مضطرين للتنقل إلى المحاكم، بل يمكنهم حضور الجلسات عبر تقنيات الاتصال المرئي. كذلك أتاحت المنصات الإلكترونية للأفراد متابعة قضاياهم، ودفع الرسوم، وتقديم الطعون إلكترونيًا على مدار الساعة.
وتُظهر البيانات الصادرة عن وزارة العدل أن معدلات الرضا عن الخدمات القضائية الرقمية تجاوزت 90% في بعض الإمارات، وهو مؤشر على ثقة المجتمع في هذه المنظومة الحديثة.
الإمارات نموذج إقليمي وعالمي
يؤكد مراقبون أن التجربة الإماراتية قد تتحول إلى نموذج يحتذى به في المنطقة والعالم. فالدول التي تسعى إلى تحديث قطاع العدالة تواجه تحديات تتعلق بضعف البنية الرقمية أو تعقيد الإجراءات القانونية، بينما استفادت الإمارات من موقعها كمركز مالي وتجاري عالمي لتطوير منظومة قضائية تتماشى مع متطلبات المستثمرين والمواطنين على حد سواء.
ويشير تقرير "Mondaq" إلى أن الإمارات لا تكتفي بتبني التكنولوجيا، بل تعمل أيضًا على تدريب كوادر قضائية وقانونية قادرة على التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعزز من استدامة هذه الثورة الرقمية.
تحديات قائمة ورهانات مستقبلية
ورغم هذه الإنجازات، فإن "القضاء الذكي" في الإمارات يواجه تحديات، أبرزها الحاجة إلى تحقيق توازن بين الكفاءة التكنولوجية والضمانات القانونية. فبينما يسرّع الذكاء الاصطناعي عملية الفصل في القضايا، هناك مخاوف من الإفراط في الاعتماد عليه بما قد يؤثر على حياد القاضي ودوره المحوري في تحقيق العدالة.
كذلك، يبقى ملف الأمن السيبراني أولوية، إذ إن أي اختراق للمنظومة قد يعرّض بيانات حساسة للخطر. ومن هنا، تستثمر الدولة بقوة في أنظمة الحماية الإلكترونية لضمان سلامة المعلومات وسرية القضايا.
رؤية نحو المستقبل
تؤكد المؤشرات أن الإمارات ماضية في تعميق تجربة القضاء الذكي. فهناك خطط لتوسيع استخدام الروبوتات في الخدمات القضائية، وتعزيز التكامل بين المحاكم والنيابة العامة والشرطة عبر منصات موحدة، إضافة إلى تطوير خدمات الترجمة الفورية بالذكاء الاصطناعي لتسهيل التقاضي أمام الوافدين من مختلف الجنسيات.
كما يجري العمل على إنشاء "محاكم افتراضية" بالكامل، حيث يمكن للمتقاضين والقضاة والمحامين التفاعل في بيئة رقمية ثلاثية الأبعاد، وهو ما قد يشكّل نقلة نوعية في مفهوم العدالة الرقمية عالميًا.